الحمار الوحشي -أعزّكم الله- مخلوق جميل لو نظرنا إليه بمنتهى الموضوعية؛ وذلك بسبب لونيه الأبيض والأسود، وقوته وسرعته الفائقة مقارنة بالحمار التقليدي، لكنه مع ذلك غير قابل للتهجين من قبل الإنسان، ولم يذكر التاريخ أن أحدًا ما استخدم الحمار الوحشي للعمل الزراعي كالحرث مثلًا، أو الركوب، أو أنه جرّ على الأقل عربة، كما تفعل الخيول والثيران والبغال.
طبيعة هذا الحيوان أنه نافر، بل ونافر جدًا ولا يتقبل الاستئناس كبقية الحيوانات من حمير وبقر وجواميس وجمال وبغال، رغم أنه يعيش في مجموعات من جنسه يدافع عنها ويحميها من الأسود والضواري عندما يداهمها الخطر، ما يعني أن بعض سلوكياته راشدة بالعرف الغريزي. هذا الحيوان محير للغاية فهو لايختلف كثيرًا عن الخيول من حيث بنية جسمه وفسيولوجيته وتركيبه عدا أنه شرس وصعب المراس، بل إننا لا نراه إلا في الغابات وبعيدًا عن أعين البشر، أو في حدائق الحيوانات. والغريب في الأمر أنه يشذ عن قاعدة الاستئناس حتى لو تم أخذه من أمه وهو صغير بقصد العناية به وترويضه؛ إذ إنه لن يستجيب لذلك، وسيظل نافرًا ووحشيًا في طباعه لايقبل الأوامر أو الانصياع لها كالحمار التقليدي، بل إنه يختلف حتى عن الأسود والنمور التي استطاع الإنسان ترويضها كالتي نراها في السيرك، وهي تستجيب لمدربيها بكل هدوء. هذا الحيوان يشذُّ عن قاعدة الانصياع والخضوع، وهذا أمر يلفت الانتباه.
بعض البشر والشعوب هكذا؛ فهم يشبهون الحمر الوحشية من بعض الوجوه..!! فمهما حاولت ترويضهم على القوانين والأنظمة واللوائح، ومهما كانت العقوبات في انتهاك القوانين مغلظة وقاسية فإنهم لن يستجيبوا للقانون ومتطلباته في الانضباط؛ مما يجعلهم في النهاية في مرتبة واحدة مع الحمار الوحشي، بل ويأخذون طباعه دون تردد؛ وكأنهم رضعوا من حليبه. وبعض الشعوب والدول على سبيل المثال تمر بمنعطفات حادة وأزمات تاريخية واقتصادية وسياسية واجتماعية مزلزلة، ونزاعات وحروب أهلية وتدخلات خارجية لفترات طويلة ولأسباب مختلفة ولسنوات طويلة بل وعقود أحيانًا، لكن هذه الأزمات الطاحنة لاتعمق فهمها حول أهمية مصيرها المشترك، ولا يتشكل عندها وعي شامل في وجدانها وعقول أفرادها الجمعي للتعامل مع الواقع، وكيف وأين يتجهون مستقبلًا وكيف يتداركون أخطاءهم حتى لا تتكرر. شعوب من هذا الصنف أشبه ببحار فقد بوصلته؛ فهو لايعرف أين يتجه للخروج من بحر الضياع؟! ولا يقف الأمر عند ذلك فحسب، بل إنهم يكررون الخطأ تلو الخطأ ليقعوا بذات المشكلات والمآزق التاريخية القاتلة، وكل ذلك على حساب استقرارهم وتقدمهم رغم أنهم قد يتحصلون على إمكانات هائلة من موارد وأموال وثروات طبيعية تساعد على التقدم والازدهار والتنمية فيما لو أعملوا عقولهم حول سبل الإفادة منها بعد تنحية خلافاتهم، والتفرغ للعمل والإنتاج.
قد يشدنا جميعًا نموذجا اليابان وألمانيا؛ فالأخيرة هُزمت مرتين في حربين عالميتين لكنها بعد أن وضعت الحرب الثانية أوزارها نهضت كطائر الفينيق، ولعقت جراحها ولم تقف كثيرًا عند هزيمتها؛ بل انطلقت بعد أن استوعبت لماذا هُزمت وكيف تتجنب الحروب والمآسي البشرية التي لاتجلب لها وغيرها سوى الشرور والدمار. وينطبق ذات الأمر على اليابان التي ضُربت بالقنابل الذرية، وهُزمت هزيمة مذلة في الحرب العالمية الثانية، لكنها وبعد الحرب وخلال عقود قليلة نهضت شيئًا فشيئًا بعد أن نحت جانبًا العقلية العسكرية والاستعمارية، وتفرغت للعلم والعمل والإنتاج؛ لتصبح وخلال سنوات قليلة ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة التي هزمتها في الحرب. الدولتان كما يتضح لاتنطبق عليهما نظرية الحمار الوحشي بدليل أن وعيهما التاريخي بمعنى الهزيمة، وكيف يمكن تجنب الحروب قد ارتفع بصورة مذهلة ما جعلهما تتخذان منحى آخر استجاب لنداء العقل والرشد والانصياع لمتطلبات التنمية والتقدم دون أن تلتفتا للماضي ومآسيه. والآن كم دولة عربية تنطبق عليها نظرية الحمار الوحشي؟ هذا يُترك لمخيلة القارئ الحصيف !!