عبدالله غريب

المسافة الزمنية بين بيضان وعليان

أدب السير الذاتية مثله مثل أدب الرحلات فإذا ما علمنا أن السير الذاتية تهتم بمسيرة الإنسان في حياته التعليمية والوظيفية العملية فإن أدب الرحلات يهتم بالأحداث والمواقف التي واجهت الرحالة في طريقهم وكلاهما يحتاج إلى رصد توثيقي دقيق بحيث يبتعد عن تضخيم الذات من جهة ويلتزم بالصدق والحيادية من خلال تقديم مادة للقارئ تعرفة بتلك الحالة التي كانت سائدة في وقت ما من حياته ويربط بينها وبين بعض الشخوص الذين كان لهم الأثر الجميل في تلك السيرة وتلك الرحلة ولعلّي من هذا التقديم أصل لما عنونت به مقالتي هذه حول مسقط الرأس ومسقط العمل وأعني بهذا الصلة بين مسقط رأسي في بيضان بزهران وبين مسقط رأس عملي في آل يزيد بقرية آل قادم بعليان والمسافة الزمنية بينهما قرابة نصف قرن وتحديدا عام 1394- 1395 هـ عندما عملت لأول مرة في حياتي الوظيفية معلما بمدرسة آل قادم الإبتدائية بصحبة الزملاء الأساتذة عبد الله القشبة الزهراني – يرحمه الله – وخضر عبد الرحمن الزهراني ومقبول الحديري العلياني وأحمد سكان الغامدي أمّا بقية المعلمين فكانوا متعاقدين من فلسطين وسوريا وعطفاً على ما بدأت يتم الربط بين المسقطين العزيزين على قلبي ففي بيضان نشأت وترعرعت وفي عليان بدأت حياة العمل وتعرّفت .

من هنا بدأت الحكاية والرواية عندما وصلنا إلى قرية عليان التي كانت تغفو على العشب الأخضر بمزارعها ومراعيها وتقف بشموخ يطاول عنان جبال البلس برجالها الطيبين وأبنائها المتوثبين وكان هناك رجل يعمل بصمت وإتقان إلى جانب والده إنه الشيخ حنش بن منصور في حضرة والده منصور يرحمه الله الذي كان وقتها شيخ القبيلة قبل أن يتسلم ابنه المشيخة رسميا حسب ما علمت وتابعت عام 1403 هـ بعد وفاة والده وكان الشيخ حنش بذكائه وكرمه ورجاحة عقله وطيبة نفسه أنموذجا للرجال الذين يسودون ويقودون مجتمعهم إلى كل جميل في بث روح العمل الجماعي والثقافة الجمعية التي تلقّاها في بيت والده أباً عن جد وكان حوله رجال من الأخوة والأقارب والأعيان يعملون لتعلية البناء لصالح مجتمعهم القبلي وبالتعاون مع من حولهم في انسجام وروابط أخوية جعلت من هذه البقعة ( شمران وعليان ) نموذجا وطنيا ومجتمعيا متحاباً أنتهى بعد عشرات السنين باللحمة الوطنية التي وضع حجر أساسها الأمير خالد الفيصل إبان إمارته لمنطقة عسير بأن وحدّ هذه البقعة وسكانها واختار لها مسمى يليق بها فأطلق عليها إسم ( البشائر ) التي أصبحت معلما حضاريا وفرت فيه الدولة جميع الخدمات الحكومية وتحولت تلك الأرض إلى مدينة مخططة عصرية مزدهرة على طريق أبها وأصبحت محطّ نظر زائريها والمارين عليها .

الشيخ حنش بن منصور يتمتع بثقافة ذاتية نابعة من نباهته وحصافة رأيه فقد سافر للرياض في مقتبل عمره ومكث بها أربع سنوات في الكلية الحربية موظفا وطالبا ثم عاد ليقف مع والده لخدمة قبيلته ومجتمعه في الثمانينات وكان وحسب معرفتي به حريصا على توفر التعليم وفتح الإدارات الخدمية فتحقق ذلك بفتح ابتدائية آل قادم قبل أن نصل إليها بسنتين تقريبا وافتتح فيها مركز وتوالت الجهات الحكومية بمطالبة الشيخ حنش وسعيه لخدمة المواطنين في مجالات الزراعة والاتصال والمراسلات والتقاضي والتهذيب وكان بيته طوال أيام الأسبوع مفتوحا لأفراد قبيلته ولضيوفه وكان مجلسه عامرا بالكرم والضيافة إذ لا يخلو ليلة من الضيوف ويقدم لهم الغالي والنفيس كرما دون منة ولا رياء أو سمعة بل تأصل فيه ذلك وكان مجتمعه لا يقل عنه في هذه الصفات الحميدة التي هي جزء من المجتمع القبلي السعودي .

لم أنس تلك البقعة من الزيارات بين الحين والآخر ولي متابعاتي الخاصة مع بعض طلابي الذين تبوأ الكثير منهم مواقع مرموقة في الوطن ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ علي جابر العلياني بجدة والدكتور سعد هاشم العلياني بالجبيل حاليا كنموذجان للطلاب المثاليين في تواصلهما من غير قصور في زملائهما الذين بالتأكيد لهم ظروفهم ولنا ظروفنا التي حالت بيننا وبين التواصل معهم ولازلنا نتشرف بهم كل في مكانه ومكانته ونعتز بهم حتى ولو حالت بيننا وبينهم ظروف الحياة العملية والأسرية التي لم يسلم منها الجميع في عصر الرفاهية التي نعيشها في عهود قادتنا الأولين يرحمهم الله وحتى العهد الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان يحفظهما الله .

لقد تكرم علي الإبن علي جابر العلياني الذي اختصر تلك المسافة الزمنية بليلة إذ وجه لي دعوة كريمة لاستضافتي بمنزله العامر بجدة الذي اعتبره في الأصل واجب عليَّ فقد شاركنا أبو أنور في مناسبات بالباحة وجدة فله الشكر سلفا على حسن الاستقبال وكرم الضيافة وما قدم من هدايا وجمعنا برجال من عليان وغامد وزهران كان الحديث معهم شيقاً تبادلنا فيه الذكريات الجميلة وقطعت على نفسي عهدا بأن أزور رمز آل يزيد بعليان تحديدا آل قادم الشيخ حنش بن منصور ولنستعيد بعض الذكريات عن المكان والسكان الذي أعتبره واجبا عليّ فقد كان نعم الرجل إلى جانبه أخوانه وأقاربه وكان لا يهنأ في مناسباته دون أن يضعنا في مقدمة الحضور وفي صدر مجلسه العامر وهذا الواجب وإن تأخر منّا فقد زرت تلك المدرسة التي كانت مسقط رأس عملي فوجدتها قد هُدمت واستبدلت بالذي هو أفضل بناءً ونموا ومراحل تعليم خرجت المئات من الطلاب الذين شاركوا ويشاركون في تنمية الوطن في جميع مناطقه ومحافظاته فإلى ذلك الحين نختم مقالتنا وندعو للشيخ حنش بن منصور العلياني بالعمر الطويل على صحة وطاعة وأن يوفقنا الله للقاء به وبرجاله في قادم الأيام ….
والله من وراء القصد .

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button