أثناء مسيرتك العلمية في الحياة ستواجه الكثير من الصراعات الفكرية، وستسلك عدة طرق إيمانية، وستشاهد عشرات المناقشات التي يريد أصحابها فرض فكرتهم الخاصة..ولكن في النهاية ستقرر أنت ما ستفعله، وما ستمتنع عنه كما قال النبي -صلی الله عليه وسلم-: (الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ).
وعالم الفن هو أحد العوالم التي اختلف حولها الناس، فهنالك شخص متحجر لا يمتلك ذائقة، والحس منه براء، يكره أي فن، وينبذ أي إبداع، يعيش بمفرده في عالمه الضيق، الذي ربما من تشدده لن يسعه ذات يوم !
سيظل العالم يعيش التنوع والاختلاف، وستظل ذائقة الناس الفنية والأدبية تختلف بين أطيافهم؛ وذلك لأننا لم نخلق لنكون شخصًا واحدًا في مكان واحد وبرأي واحد.
فعلی سبيل المثال مما يختلف حوله الناس، سواء كان هذا الاختلاف ذات أهمية لديهم، أم مراد لهم أن يضخموه، هو الخلاف حول الموسيقی..وسأسرد هنا اختلافاتهم حول ذلك.
بعضهم قال إن الدف جائز لقول النبي -صلی الله عليه وسلم- الذي خاطب فيه الرجال والنساء قائلًا: (أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي المَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ)، وهذا ما تجري عليه الكثير من الأعراس والمولد النبوي.
وبعضهم توسع قائلًا: إن الموسيقى ليست حرامًا كاملة، والدليل آن القرآن كله لا توجد فيه آية واحدة تحرم الموسيقى، ومن قال إن آية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) تحرم الغناء علی قول الصحابي عبد الله بن مسعود، فإن الكثير من علماء الأمة قالوا بأن تفسير الآية لا يقتضي الغناء.
وهنالك من توسط، وقال بجواز كل أنواع الموسيقى إلا المعازف؛ لأن النبي -صلی الله عليه وسلم- ذكرها في الحديث الذي قال فيه: (يأتي علی الناس زمان يستحلون فيه الحر والحرير والمعازف).
وهنالك من يری بجواز الأغاني “الفولكلورية” والوطنية، والتي في الأخبار كالشيخ “صالح المغامسي”..وطبعًا رأي من يحل الأغاني لا يعني أنه يسمعها؛ لأن تبيين الحكم لا يعني بالضرورة تطبيقه.
ونتيجة للخلاف أعلاه تسابق البعض إلی أماكن الموسيقى وأجهزتها في الاحتفالات؛ ليطفئها تقربًا إلی الله في ذلك..أو هكذا هو يعتقد.
وفي المقابل هنالك من لا تحلو له الأفراح إلا بالموسيقى والأصوات الشجية فالنفس البشرية جبلت علی حب الصوت الحسن، وما قول النبي -صلی الله عليه وسلم- ( يَا أَنْجَشَةُ رِفْقًا قَوْدَكَ بِالْقَوَارِيرِ) إلا توضيحًا لذلك، وما قوله -صلی الله عليه وسلم- في قصة الصحابي الذي رأى رؤيا الأذان: (فَأَلْقِهَا إلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ..) إلا تأكيدًا لما أسلفت قوله.
وهنالك من يذيل كل مقطع أو رسالة بكلمة (احذر هنالك موسيقی)؛ لكي يوضح لكل من له هاجس من الموسيقی وانكماش من الفن أن هنالك خطرًا محدقًا وأمرًا مخيفًا.
بل إن هنالك من وصل إلی أمر أخطر من ذلك؛ حيث جعل سماع الموسيقى كفرًا بواحًا..!
والبعض ربط الموسيقى بالكلمات؛ فقال إن كان كلام الأغنية فاحشًا ومثيرًا للغرائز فهي حرام، وإن كان كلامًا نبيلًا وشعرًا راقيًا يدعو للفضيلة فهي حلال.
وإذا جالست البعض قال لك: أنا في قلبي شيء من الموسيقی، ولكني أسمعها، وأسأل الله أن يتوب علي.
وتفلسف بعضهم، فقال: إن الموسيقى هدفها أن تطرب الإنسان، فإذا وجد الإنسان ما يطربه حتی لو قراءة كتاب، أو رؤية محبوبته فإن ذلك يكفيه عن كل موسيقی العالم.
والفن يشكل جزءًا مهمًا من ثقافات الشعوب ويتوارثه الأجيال تلو الأجيال، مشكلين بذلك بصمة لحضارتهم المتنوعة بكل الفنون الجميلة.
ومهما طال الزمن سيظل الخلاف حول الموسيقی حاضرًا، والنقاش حولها لن ولم ينتهِ، وبين هذا وذاك ستظل الموسيقی تطرب أقوامًا، وتزعج آخرين !.. وسيظل الناي يحكي قصص الحزانی وروايات الحائرين..وكما قال أحد الفلاسفة: (تبدأ الموسيقی حينما ينتهي الشعر).