من المعروف أنّ العربية الفصحى نشأت وتكوّنت قبل ظهور الإسلام، ثم تخيرها القرآن الكريم من بين اللغات فنزل بها لكي يفهمه جميع العرب. وقد أدى نشوء هذه اللغة في بيئة مكة وما حولها إلى انصهار لغات القبائل المختلفة في بوتقة اللغة القرشية، تأخذ منها وتعطى، حتى استقامت اللغة الأدبية على سوقها، قبل الإسلام بوقت طويل، وجاءنا هذا الشعر الكثير بلغة موحدّة رغم انتمائه إلى قبائل مختلفة.
وليس معنى هذا كله أنّ الناس كانوا في الجاهلية، لا يتحدثون فيما بينهم إلاّ بهذه اللغة، فقد كانت هناك لهجات كثيرة، لم يرق إلى هذا المستوى الأدبي، ولم يحفل بها الشعراء والخطباء. وقد روى لنا اللغويون العرب مقتطفات مبتورة من هذه اللهجات، فحدثونا عن فحفحة هذيل وهي قلب الحاء عيناً في كلمة: ”حتى”، وعنعنة تميم وهي قلب همزة ”أن” عيناً، وكشكشة ربيعة وهي قلب الكاف المكسورة شيئاً مثل: أبوك ـ بكسر الكاف ـ ، فينطقونها: ”أبوش” ـ بكسر الشين ـ وتلتلة بهراء وهي كسر حرف المضارعة، مثل: تسمع وتعلم بكسر التاء ـ بدلاً من: تسمع وتعلم ـ بفتح التاء ـ كما ذكروا لنا طرفاً من خصائص لهجة بلحارث بن كعب وطيىء وغيرها.
ومن القواعد المقررة عند علماء اللغة أنّه يستحيل على أيّة مجموعة بشرية تعيش في مساحة أرضية شاسعة، أن تصطنع في حديثها اليومي لغة موحدة تخلو من اختلاف صوتي أو دلالي أو اختلاف في البنية أو التراكيب… أنّ هذه قضية ليست في حاجة إلى برهنة، فاللغات التي تعيش بيننا الآن تعاني من هذه الظاهرة، ولا يمكن تجنبها في أية لغة من اللغات مع الأسف الشديد.
فالازدواج اللغوي ظاهرة موجودة في جميع اللغات منذ القديم، ولا سبيل إلى إنكارها، غير أنّ انتشار تعليم اللغة الأدبية ممّا يخفف من حدّة هذا الازدواج عند الشعوب التي ترتفع فيها نسبة التعليم إلى درجة كبيرة، ومع ذلك يظل الازدواج موجوداً. أمّا إذا انخفضت نسبة تعليم اللغة الأدبية عند أمّة من الأمم، فإنّ الهوة تتسع بينها وبين لغة التخاطب، كما هي الحال في العربية الأدبية وعامياتها في البلاد العربية.
وإذا عدنا مرة أخرى إلى هذه اللغة الأدبية، التي تخيّرها القرآن الكريم ونزل بها، نجدها عبارة عن لغة موحدّة اعتمدت في نشأتها وتكوينها على بعض الصفات الطيبة، في اللهجات العربية المختلفة، سواء في ذلك لهجة قريش وغيرها من اللهجات. ويعني كلامنا هذا أنّ العربية الفصحى لم تكن لغة قريش وحدها، بدليل وجود ظاهرة الهمز في الفصحى، مع تواتر الروايات المختلفة على خلو اللهجة القرشية بل اللهجات الحجازية كلها من الهمز، يقول أبو زيد الأنصاري: ”أهل الحجاز وهذيل وأهل مكة والمدينة لا ينبرون. وقف عليها عيسى بن عمر، فقال: ما آخذ من قول تميم بالا بالنبر، وهم أصحاب النبر، وأهل الحجاز إذا اضطروا نبروا. قال: وقال أبو عمر الهذلي: قد توضيت فلم يهمز وحولها ياء، وكذلك ما أشبه هذا من باب الهمز ”.
وكلمة : ” النبر” في هذا الكلام معناها: همز الحرف، كما ذكر ”ابن منظور” في معجمه المشهور ”لسان العرب”. أمّا قول عيسى بن عمر الثقفي فيما تقدّم: ”فإذا اضطروا نبروا ”فيمكن أن يكون معناه أنّ الحجازيين إذا وقفوا موقف الجد من القول، وأرادوا التحدث بالفصحى حققوا الهمز. أمّا لهجتهم الأصلية فتخلو من الهمز. كما يمكن أن يكون ”عيسى بن عمر” قد قصد بذلك الهمزة التي في أول الكلمة، فهذه يضطر الحجازي إلى نطقها، لأنّه لا سبيل إلى تسهيلها.
وخلاصة ذلك كله أنّ العربية الفصحى لم تكن لغة قريش وحدها كما قدمنا. ويمكن القول بأنّ لهجة قريش أسهمت في تكوين العربية الفصحى بعناصر كثيرة، فلا مبالغة إذن في إطلاق عبارة ”لغة قريش” على اللغة العربية الفصحى. وقد نقل الإمام الزركشي في كتابه: ”البرهان في علوم القرآن” عن ابن عبد البر قوله: ”قول من قال: نزل القرآن بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، لأنّ لغة غير قريش موجودة في القرآن، من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز”.
وقد ذكر العلماء كثيراً من ألفاظ اللّهجات العربية، التي دخلت في تكوين العربية الفصحى، ووقعت لذلك في القرآن الكريم. ومن هذه الكلمات على سبيل المثال: من لهجة هذيل: ”الرجز” في مثل قوله تعالى: ”ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى أدع لنا ربك ”. و”شروا ” بمعنى: باعوا، في قوله تعالى: ”وشروه بثمن بخس دراهم معدودة” و ”صلدا” بمعنى: نقياً، في قوله تعالى: ”فأصابه وابل فتركه صلدا ”.
و ”وليجة” بمعنى: بطانة، في قوله تعالى: ”ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة”. و”السائحون” بمعنى الصائمون، في قوله تعالى: ”التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون”. و”ببدنك” أي: بدرعك، في قوله تعالى: فاليوم ننجيك ببدنك”. و”دلوك” الشمس، بمعنى زوالها، في قوله تعالى: ”أقم الصلاة لدلوك الشمس”. ”شاكلته” أي: ناحيته، في قوله تعالى: ”قل كل يعمل على شاكلته”. و”هضماً” بمعنى: ”نقصاً، في قوله تعالى: ”ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً”. و ”اقصد” يعني أسرع، في قوله تعالى: ”واقصد في مشيك واغضض من صوتك”. و”ثاقب” بمعنى: مضيء، في قوله تعالى: ”والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب”. وقوله عز وجلّ : ”إلاّ من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب”. و”دسر” بمعنى: المسامير، في قوله تعالى: ”وحملناه على ذات ألواح ودسر”. و ”مسغبة” بمعنى: مجاعة، في قوله تعالى: ”أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة”.
ومن لغة مذحج : ”مقيتاً’‘ ـ بضم الميم ـ بمعنى مقتدراً، في قوله تعالى: ”وكان الله على كل شيء مقيتاً ”. و”الوصيد” بمعنى: الفناء، في قوله تعالى: ”وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد”. و ”حقباً” ـ بضم الحاء والقاف ـ أي دهراً، في قوله تعالى: ”لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً”. و”الخرطوم ”بمعنى: الأنف، في قوله تعالى: ”سنسمه على الخرطوم”.
ومن لهجة أزد شنوءة: ”العضل” ـ بفتح العين وسكون الضاد ـ بمعنى: الحبس، في قوله تعالى: ”ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن”. و”أمة” بمعنى: سنين: في قوله تعالى: ”وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله”. و ”الرس” بمعنى: البئر، في قوله تعالى: ”كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود”. و ”غسلين” وهو الحار الذي تناهى حرّه، في قوله تعالى: ”فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلاّ من غسلين”. و ”لواحة” بمعنى: محرقة، في قوله تعالى: ”لواحة للبشر”.
ومن لغة كنانة: ”خلاق” أي: نصيب، في مثل قوله تعالى: ”أولئك لا خلاق لهم في الآخرة”. و ”قبيلاً” يعني عياناً، في قوله تعالى: ”أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً”. و ”مبلسون” بمعنى: آيسون”، في مثل قوله تعالى: ”أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون” و”الخراصون” بمعنى: الكذابون، في قوله تعالى: ”قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون”. و”أقتت” بمعنى: جمعت، في قوله تعالى: ”وإذا الرسل أقتت لأي يوم أجلت”. و ”كنود” أي كفور للنعم، في قوله تعالى: ”إنّ الإنسان لربه لكنود”.
ويطول بنا القول لو ذهبنا نعدد الألفاظ، التي ذكرها العلماء من لهجات القبائل العربية، التي دخلت الفصحى، ووقعت في القرآن الكريم. وقد قال ”أبو بكر الواسطي” في كتابه: ”الإرشاد في القراءات العشر”: ”في القرآن من اللغات خمسون لغة”، ثم عد منها لغة قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس غيلان وجرهم واليمن وأزد شنوءة وكندة وتميم وحمير ومدين ولحم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغفطان وعمان وبنو حنيفة وتغلب وطيىء وعامر ابن صعصعة ومزينة وثقيف وجذام وبلى وعذرة وهوازن وغيرها.
ونود الإشارة هنا إلى أنّ مثل هذه الكلمات التي وقعت في لغة القرآن الكريم من لهجات القبائل، ممّا كان يغمض في بعض الأحيان على بعض الصحابة والتابعين، حتى يرد عليهم أحد رجال هذه القبيلة أو تلك فيوضح لهم معناها، فقد أخرج أبو عبيد عن الحسن أنّه قال: ”كنا لا ندري ما الأرائك؟ حتى لقينا رجل من أهل اليمن، فأخبرنا أن الأريكة عندهم: الحجلة فيها السرير”. كما روي عنهم أنّهم كانوا يتساءلون عن معنى قوله تعالى: ”أو يأخذهم على تخوف” حتى ذكر لهم رجل من هذيل أنّها من لغتهم، وأنّ التخوف في لغة هذيل: التنقص، يقال: تخوفته الدهور، إذا نقصته وأخذت من ماله أو جسمه ”.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: ”ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأت حفرها”.
وتعني هذه الأخبار وأمثالها في نظرنا، أنّ اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن الكريم، وسجل لنا ظواهرها المختلفة، كانت قد انتقت من لهجات القبائل ألفاظاً عديدة وأساليب شتى وصقلتها وهذبتها وصارت على مر الزمان ملكاً لها.
ويشبه ما حدث للعربية الفصحى في الماضي، ما يحدث للهجات العربية العامية في أيامنا هذه من انتقال كثير من ألفاظها من بلد إلى بلد، وشيوعها على ألسنة المتكلمين، بسبب سهولة الاتصال، وانتشار وسائل الإعلام، والاحتكاك المباشر بين أبناء العربية في ميادين كثيرة، وأهمها ميدان التعليم.
هذا أيها القارئ الكريم، ما قصدت إليه من تبيين العلاقة بين لغة القرآن الكريم واللهجات العربية القديمة. والله أعلم.
الله يوفقكم ويكلل جهودكم بالتوفيق.مقال غني بالمعلومات ما أحوجنا إلى التعرف على تاريخنا وتراثنا الإنساني الخالد.