لا يمكن فصل ما حدث في السعودية عما يحدث فيالمنطقة، وهو متصل بالصراع بين القطبين الاتحادالسوفيتي والولايات المتحدة، فبعد الانقلاب الشيوعيبقيادة محمد نور تراقي الذي أسقط نظام الرئيسمحمد داود عام 1978 في أفغانستان، ما يعنيوصول الروس إلى الطاقة والمياه الدافئة بضربةواحدة، فلم يكن لأمريكا سوى دعم التطرف الدينيالشيعي والسني في المنطقة؛ لخلق الفوضىخصوصًا بعد اتفاقية الجزائر التي رعاها الرئيسالجزائري هواري بومدين عام 1975 بين شاه إيرانوصدام حسين من أجل الاستقرار في المنطقة.
فكان دعم أمريكا وأوروبا لثورة الخميني جاهزة عام1979 في فبراير، وأوعزت للجيش الإيراني بدعمالخميني الذين يرتبطون بأمريكا أكثر من الشاه، وتمدعم رئيس الوزراء حفيظ الله في انقلابه على رئيسهمحمد نور تراقي في أفغانستان في 26 من ديسمبر1979، لكن فوجئت أمريكا أنه خلال 24 ساعةاجتاح الاتحاد السوفيتي أفغانستان.
لم تجد أمريكا سوى مواصلة مشروعها في دعمالتطرف الديني، وتحركت في أفغانستان من بوابةالدين من خلال دعم المجاهدين من السنة؛ كييقاتلوا الروس في أفغانستان نيابة عن أمريكا،وأعطت الدول العربية والإسلامية الضوء الأخضربأن تكون جاهزة للمشاركة في هذا القتال باسمالدين، خصوصًا وأن السعودية عانت من أزمةجهيمان في 20 نوفمبر 1979، فأعطت أمريكاالسعودية الضوء الأخضر باعتبار السعودية أنهاقادرة على أن تلعب دورًا بارزًا كرمز ديني؛خصوصًا وأن فتاوى العلماء بالجهاد في أفغانستانهي التي أعطت الجهاد المصداقية خصوصًا، وأنهكان دفاعًا عن المسلمين في أفغانستان ضدالشيوعيين.
لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت الولاياتالمتحدة تطالب الدول بتجفيف منابع الجهاد بعدتحول الصراع بينها وبين الاتحاد، وعلى رأسهمالقاعدة التي أنشأتها أمريكا خصوصًا بعد أحداث11 سبتمبر 2001.
الجهاديون أو الحركيون والبعض يسميهمبالصحويين، هم كانوا ردة فعل للثورة الخمينية وأتتبعدها حركة جهيمان، ووجدت هذه الجماعات أرضيةخصبة حينما بدأت تشارك في الجهاد فيأفغانستان تحت رعاية أمريكا ودعم الدول العربيةوالإسلامية، لكن كانت لها انعكاسات محلية، بسببأنها حركة فكرية إخوانية مع متشددين من السلفية،لم يشترك فيها كبار العلماء، من تلك الآثار اصطدامرموز التشدد مع الدولة، وطلبها وقف التعاونالعسكري مع الولايات المتحدة بعد احتلال صدامحسين الكويت، رغم أنه كان قرارًا سياسيًا ولا يحقلهم الاصطدام بالدولة، لكن هذا مؤشر على أن هذهالفئة جماعة من تيارات الإسلام السياسي، ليستفقط جماعة دينية تسعى للسلطة عبر عباءة الدين،والنظام السياسي في السعودية يختلف عن النظمالجمهورية التي أتت بانقلابات عسكرية.
عندما تولى الملك سلمان زمام قيادة الدولة في 23 يناير 2015، وكانت السعودية تعاني من تحدياتكبرى، بدأها بعاصفة الحزم في 26 مارس 2015،وكان عليه أن يقوم بإصلاحات كبرى سياسيةواقتصادية واجتماعية، فتم إعدام 47 إرهابيًا علىرأسهم منظر القاعدة فارس آل شويل ونمر النمر.
ثم تولى الأمير محمد بن سلمان الإعلان عن رؤيةالمملكة 2030 في 2016، ولا يمكن أن تكونالسعودية أكبر دولة تمتلك احتياطيات نفطية، لكنصادراتها السلعية في الترتيب 21 تسبقها الدولةالصغيرة سويسرا، ودولة الإمارات الصديقة، وهونجكونج ضعفي صادرات السعودية، وهولندا أكثر منضعفي صادرات السعودية، فوجد الأمير محمد بنسلمان ولي العهد أن من أسباب احتلال السعوديةمركزًا متأخرًا هو بسبب وجود عوائق اجتماعية؛خصوصًا وأن السعودية مقدمة على مشاريع عملاقةمثل: مشروع نيوم بمساحة أكبر من دبي تحركهاالطاقة الشمسية وتديرها الروبوتات، بجانب مشاريعأخرى عملاقة، وإعادة هيكلة الاقتصاد والمجتمع.
بناء على تلك الإصلاحات كان لابد أن يوازيهاإصلاحات اجتماعية ودينية فصرح الأمير محمد بنسلمان بالعودة إلى الإسلام الوسطي المعتدلوالمنفتح على جميع التقاليد والشعوب والتي تنطلقمن شريعتنا الغراء، مما يحتاج إلى مواجهة التشددووقفه التي كانت مجموعة من رجال الدين تنتهجه،والتي حرمت حقوق المرأة من أبسط حقوقها، ومنعالاختلاط في العمل بسبب أنها كانت تحتفظ بسلطةدينية، لكن تم سحب تلك السلطة، والاكتفاء بأداءواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بدعم منقبل هيئة كبار العلماء.
استردت الدولة مهام تطبيق الأنظمة الاجتماعيةالصارمة بالفصل بين الجنسين، حتى إن البعضاعتبر أن الدولة قضت على جهيمان جسديًا لكنهانتصر فكريًا وثقافيًا، فقط لأن الدولة تحرص علىوجود روابط وثيقة بينها وبين رجال الدين، لكن أصبحالخطاب الديني المتعصب هو السيد في المملكة.
الأمير محمد بن سلمان يتولى بناء الإنسان لقيادةنهضة شاملة يقودها شباب هذا البلد من الجنسين؛خصوصًا وأن هذا الدين أتى لرفع الأغلال والقيود(ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)،واحتل الحجاب مساحة واسعة جدًا من التناولمتبوعة بنظرة ذكورية وتقليدية ومرتبطة أيضًابموروث طويل جعلته يتحول إلى مقدس، وتعتبر كلامرأة أنها تأثم إذا تخلت عن الموروث، وقد قيدت تلكالآراء حركة المرأة بسبب الخلط بين آية (وإذاسألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكمأطهر لقلوبكن وقلوبهن)، وبين آية ( يا أيها النبي قللأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن منجلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان اللهغفورا رحيما)، وهي آية للكشف عن شخصيتهاوهويتها يؤيد هذه الآية حديث الرسول صلى الله عليهوسلم في صحيح البخاري عن ابن عمر: (لا تنتقبالمرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)؛ لأن الحجاب (وماكان لبشر أن يكلمه الله من وراء حجاب)، والحجابغير الجلباب.
لكن تلك التيارات تصر على حديث روي عن السيدةعائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا، ونحنمحرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاحاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها علىوجهها فإذا جاوزونا كشفت) وهو حديث خاصبأمهات المؤمنين، وهذه التيارات ترى في الحجابمنهجًا فكريًا خاصًا بها لا ينسجم والأحكامالشرعية، ما جعل يسيطر هذا الرأي المختلطبالعادات والأعراف بعيدًا عن القراءة الشرعية، ودخلالمجتمع حالة من الشد والجذب، وكل طرف يريدفرض رأيه بعيدًا عن دراسات شرعية علمية بحثية؛خصوصًا وأنه ليس موضوعًا عقائديًا، بل قد يكونسياسيًا أو موضوعًا يتعلق بحقوق النساء من خلالسيطرة الرجال أو موضوعًا ثقافيًا أو استهلاكيًا،ولذلك لابد من قراءة الحجاب من فضاء محايد بعيدًاعن أي مصالح، أو رؤى خاصة.
حتى سفر المرأة بدون محرم رغم أن هناك أصبحالسفر بالطائرات، وهناك نساء يتولين مناصب علياتمنع من حضور المؤتمرات أو الدراسة إلا مع محرماستنادًا الأخذ بنص حديث الرسول صلى الله عليهوسلم: ( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخلرجل عليها رجل إلا ومعها محرم فقال رجل: يا رسولالله أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريدالحج فقال أخرج معها)، وذهب جماهير أهل العلمإلى منع سفر المرأة بدون محرم لغير ضرورة، وذهبآخرون إلى جواز السفر بدون محرم، فالأمر سعةولماذا التمسك برأي آحادي دون الأخذ بالآراءالأخرى.
وقد حث الدين الإسلامي على طلب العلم: (وما كانالمؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهمطائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعواإليهم لعلهم يحذرون)، فيجب التخلص من التشددوالمتشددين والمتطفلين، فالمجتمع راشد ولا يحتاجإلى وصاية ولديه القدرة على إدارة شؤونه، فالدينهنا في الآية تعلم جميع أنواع العلوم، خصوصًا إذاكان في البلد تشدد فعلى جماعة أن تخرج للتعلملنبذ التشدد الذي عليه المجتمع وهذا الذي طبقتهالدولة، بسبب أن فئة تصر على رأيها، وتريد أنتسوق المجتمع نحو آراء محددة للتضيق عليه.
التاريخ فيه تشجنجات، وحمل الناس على آراءموروثة أو متشددة ليس مطلوبًا بل يجب أن يتموقفها ومنعها، ومنع تسخير العلم لأهداف رخيصة أوخاصة والتي ليست على علم وهدى ووعي، وحديثالرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذهالأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود، والمجدد ليس شرطًا أن يكون فردًا بلمجموعة من المجتمع أو طائفة من العلماء (يحمل هذاالعلم من خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالينوانتحال المبطلين) وإن كان حديث مرسل ذكره ابنكثير، لكن معناه صحيح (إن الدين بدأ غريبا فطوبىللغرباء الذين يصلحون ما أفسده الناس من بعديمن سنن) رواه الترمذي، (وما يتبع أكثرهم إلا ظنًاإن الظن لا يغني من الحق شيئًا إن الله عليم بماتفعلون) الشك لا معنى من اليقين شيئا، ولا يقوممقامه، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين.
وحرمت تلك الفئات على المجتمع السينما وبقية أنواعالترفيه بحجج ظنية غير يقينية (قل من حرم زينة اللهالتي أخرج لعباده من الطيبات من الرزق)، معتمدينعلى قول الله سبحانه وتعالى (ومن الناس منيشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم)،والآية واضحة أن كل من يقوم بعمل الهدف منهإضلال الناس فهو محرم، ولكن ليس معنى ذلك أنالغناء والموسيقى محرمة بهذه الآية
أستاذ بجامعة أم القرى بمكة