ومضات الوهج
الومضة العاشرة
سورة النور حين أقرأها أشعر و كأني دخلت عالما يرفض قذف الناس بالباطل ويمنع توزيع التهم جزافا، وفي الآية الحادية عشرة تبدأ قصة حادثة الإفك والتي تصف قصة حدثت للسيدة عائشة أم المؤمنين وهي في الخامسة عشرة من عمرها تقريبا، زهرة صغيرة كانت في صحبة رسول الله في إحدى غزواته حيث كان قد اقترع على زوجاته و كان من نصيبها الخروج، وتتلخص القصة في أن أشرف النساء قد تأخرت عن القافلة لبحثها عن عقدها الذي انقطع وحين عادت لموضع الهودج وجدتهم رحلوا فجلست في مكانها على أمل أن يعودوا باحثين عنها فغفلت عينها ونامت، وكان صفوان بن المعطل السلمي – صحابي جليل- قد تأخر و فاته اللحاق بالركب فلمح السيدة عائشة واسترجع حين رآها وتعرف عليها وأناخ راحلته لتركب ولم يحادثها بكلمة وصار يقود الراحلة حتى وصلا إلى موقع الجيش وحينها رأوهما المنافقون فأشاعوا عنهما ما أشاعوا وصار الناس يتناقلون الأخبار و الشائعات وبعضهم صدق الافتراء على أم المؤمنين وكان على رأس المفترين المنافق عبدالله بن أُبي بن سلول و مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت و حمنة بنت جحش، وانحبس الوحي عن الرسول الكريم مدة طويلة وحين بلغ الخبر بهذا الافتراء مسامع السيدة عائشة حزنت حزنا شديدا وبكت بكاء مرا واعتراها الهم خاصة وأن رسول الله قد دخل عليها فقال لها فيما معناه بأنه قد بلغه عنها كذا وكذا وأنها لو كانت بريئة فسيبرأها الله و إذا كانت مذنبة فلتتوب إلى الله وتستغفر، فردت بأن مابلغهم قد استقر في قلوبهم وصدقوه فإن أنكرته لما صدقوها وإن اعترفت بذنب لم تقترفه لصدقوا وختمت بقولها : فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف حين قال (فصبر جميل و الله المستعان على ماتصفون) وتحولت عنهم واضطجعت في فراشها وهي تعلم بأن الله سينصرها، وبالفعل جاءت البراءة بوحي من الله، بآيات عطرة تفند أقوال المنافق رأس الأفعى ومن استزله الشيطان من المؤمنين فصدقوا بهتانه، وكان العرق ينحدر من على رسول الله كالجمان أي كاللؤلؤِ حين نزل عليه الوحي – وكان ثقيلا- بالبراءة وما إن انتهى حتى جاء لعائشة وهو يضحك قائلا :ياعائشة أما والله فقد برأك الله، فقالت لها أمها قومي إليه فردت وفي داخلها عتب وحزن :والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد الا الله.
وكانت الآيات التي جاءت من فوق سبع سماوات كفلق الصبح لبراءة أشرف النساء ولتدين كل من بهت و افترى،
فالله يخاطب نبيه وعائشة وأبويها وصفوان بأن هذا الإفك ليس شرا لهم بل هو خير حيث قد كتب أجرهم وأظهر براءتهم، وقيل أن الآية (الذي تولى كبره منهم) يقصد بها حسان بن ثابت و أنه قد أصابه العمى بعد ذلك، وروي أن رسول الله قد أتى بهذه العصبة المفترية فحدهم بالجلد ثمانين ثمانين ، إلا ابن سلول فقد تأخر عذابه للآخرة.
لطائف مستفادة:-
– هذه قصة بهتان حدثت لأشرف نساء الأرض ليهون الله على إمائه إن تعرضت إحداهن في أي زمان و مكان بعدها لذات الموقف، ولتثبت وتثق في عدل الله وأنه لايرضى ظلما لعباده وأن تتخذ من الصبر ملاذا و من اليقين وشاحا فعائشة بعظم قدرها رميت وقذفت وفي هذا تخفيف عمن تقذف بعدها بأن تتصبر وتستعن بالله.
– موقف رسول الله الرائع، موقف سيد البشر وأكاد أجزم أنه على ثقة من برائتها لكنه اتخذ موقفا حكيما متزنا حتى أتت براءتها من رب العالمين فلا هو الذي ثار وصدق واتهم، ولا هو الذي دافع عن زوجته بلا بينة، فجاءت البينة من الخالق، وأي بينة.. ليخرس كل من افترى.
– كان الصديق ينفق على مسطح وهو أحد الذين رموا السيدة عائشة بالفاحشة و بالطبع بشعور الوالد وغضبه من أجل ابنته فقد عزم على إيقاف النفقة إلا أنه عاد و أنفق بعد نزول (ولا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة.. ) واختار أن يغفر الله له، فتلك هي شيم المحسنين يمنحون حتى من آذوهم فالعفو ديدن العظماء الذين يبغون الأجر من الله لا الانتقام الشخصي.
– لاتيأس يا بن آدم مهما أصابك من مصائب، فهاهو رسول الله قد لحق به كل ألم ففقد الابن وجرب ألم البهتان و القذف لعرضه وشرفه وأوذي وسحر ومرض، ولم تبق نائبة من نوائب الدهر إلا و ذاقها ليكون لنا مثلا و نحتذي بحذوه ونتصبر كما صبر..
– جاءت الآيات بعد تبرئة السيدة عائشة لتؤكد على التحذير من إشاعة الفواحش وذكر السيئات وقذف الناس بلا بينة فملعون هو من يقذف المحصنة وله عذاب أليم.
– الكلمة الطيبة لاتصدر إلا من رجل طيب و امرأة طيبة والخبيثة لاتكون الا من خبيث، فتخير الكلمات الطيبات لتقلها فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء فحذاري من الشائعات المنقولة و الأخبار المكذوبة فقد تبوأ بإثم صاحبها مدى الدهر.
جعلنا الله ممن لايقذفون و لايرمون و لاينطقون إلا بالكلم الطيب.