المقالات

الثورة السودانية عند مفترق الطرق

اندلعت شرارة الثورة السودانية بحركة احتجاجات قوية في مدينتي عطبرة وبورتسودان، قادها طلاب المدارس والجامعات، وبعض الكيانات الفئوية على إثر الزيادة في أسعار الخبز، وتفجر الغضب الشعبي من أزمات الوقود والنقود والغاز، والغلاء والانهيار اليومي في سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية. ولعل الثورة السودانية قد استدعت ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م؛ لتطلق موجة تظاهرات ثورة 19ديسمبر 2018م .

وتولى تجمع المهنيين السودانيين قيادة الحراك الجماهيري وجدولة التظاهرات التي تعامل معها النظام البائد باستخفاف كبير، واصفًا المتظاهرين بالمخربين وشذاذ الآفاق والعملاء أصحاب الأجندات الخفية، ومستخدمًا آلته القمعية في ضرب الثوار وتفريقهم بالغاز المسيل للدموع والجلد المبرح والقتل بالرصاص الحي، فسقط أكثر من مائة شهيد وآلاف الجرحى الذين زادت دماؤهم الذكية من زخم الثورة ضد نظام فاشي متعطش للدماء، ولم ينتبه النظام الفاسد والشائخ والمترهل إلى تآكل شرعيته وانهيار شعبيته إلا بعد أن عمت الثورة مدن وقرى السودان كافة، حتى تم استلهام ذكرى انتفاضة السادس من أبريل 1985م، في الدعوة لتظاهرة مليونية في 6 أبريل 2019م، أفضت إلى الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة فكان لها ما أرادت من هز هيبة النظام الذي لم يجد رئيسه منفذًا غير الدعوة للحوار والزج بأجهزته القمعية لفض الاعتصام بالقوة، وكان لانحياز القوات المسلحة وقوات الدعم السريع إلى خيار الثوار دور وطني مهم في حقن دماء السودانيين وإعلان مرحلة جديدة من عمر السودان أسقط فيها الثوار الرئيس البشير ونائبه الفريق أول، عوض بن عوف. ثم تولى المجلس العسكري الانتقالي بقيادة الفريق أول، عبدالفتاح البرهان مقاليد الأمور خلال فترة انتقالية مدتها تصل لعامين، ويجرى حاليًا التشاور مع قوى إعلان الحرية والتغيير صاحبة الدور الرائد في الثورة من أجل تكوين هياكل السلطة، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة “تكنوقراط” تتولى إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية .

هناك مخاطر كبيرة تحيط بالسودان وثورته الوليدة، فالمجلس العسكري الانتقالي بطبيعة تشكيلته الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع يُعبر عن موازين القوى على الأرض، وتشكل ارتباطات العسكر الخارجية بالمحاور الإقليمية توجسًا حول مسار التحوّل الديمقراطي المنشود، بالإضافة لمخاطر جيوب كتائب الظل وميليشيات النظام السابق المتوارية عن الأنظار، والتي لم تفكك بالكامل مع بقية أجهزة ومنظمات الدولة العميقة.

وإزاء هذه المخاطر على المتظاهرين والمعتصمين الذين تتباين مشاربهم الفكرية ومنطلقاتهم الإيديولوجية والحزبية الحرص على وحدة مكونات الثورة، وتوسيع دائرة الالتفاف الشعبي حولها بالتنازل عن الأجندة الحزبية التي توشك أن تشق الصف الوطني، فمعظم المتظاهرين في ساحات الوطن وأمام قيادة الجيش من الشباب الذين لا انتماءات سياسية لهم ولم يشاركوا في استقطابات الستينيات من القرن الماضي بين الأطروحات “العلمانية” و”الإسلامية”. لذا تبدو التصريحات المستفزة من أهل كهف الحزب الشيوعي عن “تحرير الدولة من الدين والدين من الدولة” وإلغاء المرجعية الإسلامية تغريدًا خارج السرب الوطني، مما استعدى قطاعًا واسعًا من الأئمة والدعاة والجماعات الإسلامية، وعجل بنشاط الثورة المضادة خاصة بعد مطالبة قوى إعلان الحرية والتغيير بالحق الحصري في الثورة معتبرة نفسها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوداني، فهي تنادي بتسليمها السلطة الانتقالية كاملة فورًا لمدة أربع سنوات بموجب الحق الثوري وبلا انتخابات، مكررة ذات منهجية النظام السابق في استئثاره بالسلطة، وتهميش وإقصاء الآخرين؛ وكأن ثورة الشعب السوداني كانت من أجل تنصيب دكتاتورية مدنية تحل مكان المخلوع البشير وحزبه !!.

لعل أكبر أحزاب قوى إعلان الحرية والتغيير هو حزب الأمة القومي بقيادة السيد الصادق المهدي الذي كان له موقف متشكك من ثورة الشباب في 19 ديسمبر 2018م، حتى هاجمته القوى الثورية في وسائط التواصل الاجتماعي خاصة بعد تصريحاته غير الموفقة عن “دخان المرقة”، فلم تغب عن فطنة الشعب السوداني لعبة الصادق المهدي بحجز أسهم له في المعارضة بتقديم ابنته د. مريم الصادق المهدي مع مد قدم راسخة له في الحكومة يضعها ابنه اللواء، عبدالرحمن الصادق المهدي الذي بقي في منصب مساعد رئيس الجمهورية حتى سقوط المخلوع، فما الذي يجعل “للمهدي الإمام” الحق في تمثيل القوى الثورية مع رفاقه اليساريين بينما تُحرم القوى السياسية الأخرى من “بوخة” الثورة ؟. !!

لقد أعلن المجلس العسكري الانتقالي عزل حزب المؤتمر الوطني عن المشاركة في ترتيبات الفترة الانتقالية، وهناك أحزاب أخرى كالاتحادي الديمقراطي الأصل وغيره من الأحزاب والحركات المسلحة التي شاركت في الحكم بعد توقيعها اتفاقيات سلام، مثل حركات دارفور ومؤتمر البجا، ما المسوغ لعزلها من الإسهام في الفترة الانتقالية ؟. !!

لا يوجد حزب سياسي معارض لم يشارك في حكومة الإنقاذ طوال الثلاثين سنة الماضية، خاصة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005م، التي أفضت لدخول الحركة الشعبية في الحكومة واتفاقية القاهرة التي وقعها التجمع الوطني الديمقراطي مع النظام البائد، وظلت مواقف الجميع معروفة داخل أروقة النظام البائد، وهي المناداة بالتحوّل الديمقراطي والسعي لتحقيقه، ومسألة تقييم دور كل حزب ومدى إسهامه في التمكين للديكتاتورية تبقى هي خيار الشعب السوداني في صناديق الانتخابات العامة الحرة والنزيهة، أما خلال الفترة الانتقالية فيجب أن يشارك جميع السودانيين بلا إقصاءـ عدا حزب المؤتمر الوطني ــ وقد شبه أحد الثوريين في لقاء تلفزيوني أحزاب “الفكة” المشاركة للنظام البائد بالمتأخر عن صلاة الجماعة وعليه الصلاة في آخر الصف، بيد أن تجمع المهنيين وحلفائه هم من منعوا المتأخرين من صلاة المسبوق في الصف الأخير ونيل أجر اللحاق بالجماعة، بل حرموهم حتى من تكوين جماعة أُخرى داخل “المسجد الثوري”. !!
ومع تقديري الكامل لدور الطليعة الثورية التي قادت الجماهير فهي غير مخولة لرسم خريطة الوطن على مدى سنوات الانتقال الأربع، وغير مفوضة للاستئثار بالسلطة دون انتخابات، فالثورة ثورة شعب بأكمله، وليست ثورة فئة محدودة منه، فكافة الأحزاب والتنظيمات السياسية بالإضافة للحركات المسلحة لا تمثل سوى10% من الشعب السوداني.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button