توطئة :
اللغة التي تحدث بها وجه أمي ذات عيد
هي أكثر لغات الكون صدقا ونبلا.
……..
في صباح ذلك العيد كنت انطلق مع صبية القرية تماما كما تنطلق الطيور من النهر وهي تصفق ابتهاجا بقوتها الجديد.
آوينا إلى حديث كان من عالم آخر مثالي ولائق للعيش نثره الإمام بنبرة حالمة .. ولكنها عاجزة عن التنبؤ بما يخبئه القادم من ساعات نهار العيد لطفل مثلي فالأحاديث والخطب وحتى الدموع أكثر بهرجة من أن تليق بقلب كسير.
العيد يتحول معلما حين يمدنا بنور الحكاية ولو كان لجدران وطرقات ومعاريج قرية (الصقرة) لسان،
لسال نهر حكاية وجعي
في طرقاتها دون توقف.
ولو كان للزمن كاميرا لحفظ أرشيفها صورة موجعة لطفل بائس ومعدم وفقير. لاتقل تراجيديا عن صورة الطفل محمد الدرةوهو يقضي نحبة تحت وابل الرصاص
اللهم إلا في كون روحه فاضت
فيما بقيت روحي تجتر الذكرى الموجعة
في بيت أبو ناصر قربت الموائد بتنوع بديع.
أنفي المفلطح تستوطنه حماقة أعيتني حتى اليوم
يومها كان لايكف عن تسريب روائح الطعام لمعدة خالية، فيما منظر التمر والموز والسمن يسيل له لعاب سكان المقبرة المجاورة
اشتهيت التمر والعسل والعيش والمرق
قبل أن آوي إلى المائدة. هوت علي يد كالمرزبة.
جذبتني للوراء
قبل أن تتعاون مع اليد الأخرى لترفعاني عاليا
المسافة بيني وبين الأرض كافية لإثارة الرعب فيما لوتركني أهوي ماهو مصيري؟
يواصل رفعي
حتى كدت أختنق
لم يكن بوسعي أن أتخلص من قبضته،
حسبت الأمر كابوسا
لكن نزولي على الأرض ووقع الخيزران على ظهري
وصفعاته على وجهي
تؤكدان حقيقة الأمر.
سب.. وشتم أوجع قلبي وجسدي
وجدت نفسي خارج المجلس
رائحة السمن واللحم والمرق تشدني نحو الداخل، يترصد لي غريمي مجددا بوابل من الصفع المتتابع
بات علي المغادرة
انزلق وسط دموعي ودماء أنفي اللعين عبر الطريق المتعرج ومنها إلى بطن الوادي
أتهادى حتى اصل السد. هناك كنت على موعد مع المزيد.
سرب من النحل فرق عن سربه
يهاجمني بشراسة
يلدغ شفتاي
وأطراف العينين ومؤخرة راسي
غدا وجهي بشعا بشكل لايطاق
وروحي ترتعد
وأنفاسي تتصاعد
أحاول الهرب بخطى كسيحة
المسافة ليست قصيرة إلى قريتنا
أسير نحو بيتنا وحضن أمي المفجوعة بي
-لم يكن من عادة أهالينا سؤالنا عما حدث
لنا-وكأنهم يريدون تدريبنا على مواجهة مصاعب الحياة بأنفسنا
أعود بروح مهشمة ووجه منبعج وسواد اللحظات،
لاملاذ لي إلأ قلب أمي وخيالي الذي يسافر بي نحو أبي
اخالني التقيته
سألته هل تراني يا أبي؟
هل تعرف ماحدث لي؟
لاصدى يوصل!!
لكنا حين نفقد جمال اللحظة
وتحيط بنا سوداوية الحياة وتلسعنا ببؤسهانلجأ لابتكار عالم يأوينا
تنقذني الموسيقي
وإذاعة دمشق
صوت فيروز يصنع لي لحظة إرتواء وهي تغني للعيد (طالع ع بالي ضم
زهرة وقلب
وئدمهن للعيد
عيدية)
التساؤلات تصنع لنا مركبا فخما
تشرع الباب على احتمالات لاحصر لها
أتساءل هل سبق لأحد أن فكر في أن يهدي العيد
هدية قبل فيروز ؟
يخاتلني ألم شنيع يكاد يشق وجهي ويعيدني مجددا إلى عالم البؤس الذي يطاردني.
علي أن أعترف أنه حين يأتي العيد تربكني الذكري
ويعتادني الوجع حين يجلب معه تلك اللحظات الموجعة
وذلك الرجل الذي سود بياض العيد بقية العمر
ويرتكبني الفضول :
لم لم تخترق خطبة العيد قلب من أوجع طفولتي؟
لم لم يبادر الإمام بمحاولة تحويل مضامين خطبته إلى واقع يشمل قلب طفل يتيم؟
أين كان أقاربي؟
كيف تركوه يقذف بي بعيدا؟
هل من جرم ارتكبته؟
رغم تباعد السنين
أكتوي بنار تلك اللحظة
أتعاطف مع نفسي
أسمع ويلات روحي
كيف لي في كل عيد أن امنع دموعي ان تنهمر؟
البساطة عندما ترتبط بإحساس صادق تولد عملا جميلا