في عصر التوتر والقلق والسرعة والضغوط…
هل الإنسان المعاصر معرض للانقراض؟
ضغوط الحياة كثيرة… وقد زادت وطأتها في الأزمنة الحاضرة… الحياة كانت قبلاً أسهل بكثير، مما هي عليه الآن… والضغوط أصبحت تحاصر الإنسان، ولا تكاد تترك له فرصة للخلاص أو تعطيه فرصة كافية لالتقاط الأنفاس… وضغوط الحياة بعضها عام وبعضها خاص، والبعض الآخر يختلط فيه العام بالخاص…
فماذا ينبغي أن يقال عن الصحة العقلية في ظروف العصر الجديدة، لقد شبعنا حديثاً عن مسائل التوتر، والقلق، والسرعة، والضغوط، كلام كثير معاد، وصحيح (للأسف) لكنه أبداً لا يصل إلى مسئولية المواجهة التي ينبغي أن نتحمّل مسئوليتها أمام ضمائرنا باعتبارنا بشراً نعيش معاً سنة 2019 ومطلوب منا الآن أكثر من أي وقت مضى أن نساهم في صناعة التاريخ بوعي وإلاّ…
والسؤال الصدمة الذي لا ينبغي أن يغيب عنا أبداً يقول: هل الإنسان المعاصر معرض للانقراض؟ والإجابة المسئولة هي: نعم!!
هذه هي الصيحة الحقيقية التي يمكن أن تكون موضوع هذا المقال عن الصحة العقلية، وهي الصيحة المختصرة والخطيرة في آن، وهي التي يمكن أن تساهم في المسيرة حقيقة وفعلاً ـ وقد تعمدت أن أستعمل لفظ الصحة العقلية وليس الصحة النفسية، لأنّ مسألة صحة العقل هي محور الوجود البشري، والعقل ليس عضواً جسدياً بقدر ما هو وعي كلّي، صحيح أنّ محور نشاطه هو الدماغ إلاّ أنّ كلية حضوره تشمل كل الجسد وتمتد إلى دوائر التواصل حوله، أقول إنّ الإنسان المعاصر وقد غمره فيضان المعلومات قد أصبح في حاجة إلى إعادة صياغة وجوده من الأساس. فلم تعد المسألة مسألة توازن داخلي، وتكيف خارجي. لم تعد المسألة إنجاز عمل أو تحقيق منفعة.
لم تعد المسألة شكوى من ألم نفسي أو قلّة في راحة البال تصل إلى حد الرخاوة المسماة الرفاهية. الإشكالية الحديثة التي تواجه إنسان العصر لتحقيق ما يسمى الصحة النفسية هي إشكالية جوهرية تبدأ بحاجته لتعريف معنى لوجود الفرد البشري في الظروف الجديدة، وكذلك هدف لاستمراره، وسبل بقائه، وكل هذا أصبح يحتاج إلى شكل آخر من الوعي، وشكل آخر من العلاقات، وشكل آخر من الإنتاج، الصحة النفسية بمقياس الذي يجري الآن إنّما تتحقق:
ليس بدرجة التوازن الآمن، وإنّما بدرجة التناسق الحركي المناسب، وهي لا تتحقق بالخلو من الأعراض، وإنّما بالقدرة على استيعاب معنى الأعراض لإعادة تشكيلها في قوة دفع جديدة. وهو لا تتحقق بالسكون الآمن، وإنّما بالحركة المتعددة التوجه.
هذه الأمور لابد لها من بعض التفصيل أو التحديد، وفيما يلي رؤوس مواضيع تمثل المواقف، والقيم والقياسات التي يمكن أن نعيد من خلالها النظر في الصحة العقلية لإنسان عصر المعلومات:
أولاً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يستطيع أن يوفق بين تلقي المعلومات على وفرتها الآن وبين تأجيل القفز إلى تسطيح العلاقات بينها، لم يعد مناسباً أن نفكر بالطريقة الخطية السببية: السبب (واحد) يؤدي إلى النتيجة (واحدة) ـ هذا لا يحقق الصحة النفسية إلاّ لأطفال مدارس ضعاف العقول، وإنّما تتحقق الصحة الآن بالقدرة على تلقي عشرات المتغيرات المرتبطة بعشرات النتائج، ثم يتحمل الإنسان العادي ـ بقدراته الجديدة ـ استيعاب حركية هذه العلاقات معاً، كل ذلك مع استمرار الفعل المنتج اليومي البسيط!
ثانياً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يتعلم أن يحب نفسه بالمعنى الجديد للحب، الذي يشمل الوعي والمسؤولية، وأن يصب هذا الحب لنفسه في خير الناس دون إدّعاء فروسية العطاء أو زعم التضحية، إنّه الذكاء الجديد الذي يجعل المصلحة البادئة بالذات هي المصلحة التي تعود على المجموع.
ثالثاً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً بقدر ما يحافظ على مرونة الحركة بينه وبين الناس، وبينه وبين الموضوع، وليس بقدر ما يقترب من الآخرين بزعم التفاني فيهم أو حبّهم أو الحاجة إليهم، ومرونة الحركة تفرضها وفرة المعلومات الحديثة، إذ لا يستطيع الإنسان أن يحيط بهذه المعلومات ـ باعتبارها مثيرات موضوعية ـ إلا إذا كانت ”المرونة” وليس الاقتراب هي القيمة التي تحدّد نوع الإدراك وحيوية المسافة.
رابعاً: يكون الإنسان صحيحاً نفسياً بقدر المساحة التي يتحرك فيها، وليس بقدر الإنجاز الذي يحققه منفصلاً عنه، وهذه المساحة متصلة من ناحية بمرونة الحركة، ومتصلة من ناحية أخرى بتحمل وفرة المعلومات لدرجة تسمح بالحركة منها وبها، لا بالغرق تحتها أو إنكارها. وهذا كله يحتاج إلى تغيير جذري في طرق التعليم، وتنمية الخيال في الواقع اليومي، وتنظيم العلاقات بشكل حيوي متجدد.
خامساً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بحسب قدرته على مواجهة قضايا التلوث، والحديث الجاري الآن يغلب عليه مفهوم تلوث البيئة، بالمخلفات، والعادم وما شابه، ولا يجري الحديث بقدر مناسب أو كاف عن تلوث الوعي، مع أنّ ملوثات الوعي الحدث كثيرة، ومرعبة، ذلك لأنّ أي معلومة تقتصر على مخاطبة مستوى من الوعي دون الآخر، هي معلومة كالجسم الغريب، وهي ملوثة لأنّها معوقة للتناغم، أو مخدرة وليست مفجرة.
سادساً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر حركته في ”الزمن” بالمعنى الآني والموضوعي والممتد ”معاً” والامتداد هنا ليس بمعنى التأجيل الآمل، أو الخيال المحتمل، وإنّما بمعنى حرية التعامل مع الزمن ذهاباً وجيئة، وعلى مستويات مختلفة، وهذه هي قيمة لم تعد خاصة بموجة حديثة في الأدب أو الإبداع وإنّما هي قيمة تصف ـ أو ينبغي أن تصف ـ الإنسان المعاصر الذي أصبح قادراً على أن يرصد ويتحرّك في الكون الأبعد، فيرحل إلى القمر ويخاطب المريخ ويرصد المشتري، وبالتالي فلابد أن يتناسب ذلك ـ حتى يكون الإنسان صحيحاً ـ مع قدرة مماثلة للتحرك في طبقات الوعي (دون تحليل تفسيري أو فك عقلاني للرموز) وهذه الحركة في طبقات الوعي هي البعد العرضي لطبقات الزمن التي كنا نتصور أنّها ماض وحاضر ومستقبل، ثم ها نحن نستقبلها جميعاً في واقع الحال مع اختلاف بعد المسافة والمساحة.
سابعاً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يصبح الجنون جزءاً من وجوده، وفي نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود ليقوده إلى التناثر أو التدهور، حين يحدث ذلك نكتمل به ـ بجنوننا ـ في نفس اللحظة التي ننتصر فيها عليها، وهكذا فإنّ الإنسان المعاصر الصحيح إنّما يكون صحيحاً ليس بفرط التعقل وإحكام ضبط الداخل، وإنّما بحجم التكامل والسماح والتناوب المرن والامتداد المتعدد الحلقات.
ثامناً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر الموت الواقع حالاً في داخله، فالموت ـ بالمفهوم الأحدث ـ ليس سلباً كلّه، وليس نهاية مغلقة، وإنّما هو حقيقة موضوعية آنية، وحتمية، وحين تتضح هذه الحقيقة في وعي الإنسان المعاصر بنفس درجة وضوح الحياة، ووضوح الإنجاز المادي المحدد، ووضوح القوة السلطة، حين يحدث ذلك، تحضر ظاهرة الموت في حجمها الموضوعي في بؤرة الوعي ممّا يعطي لكل هذه القيم معنى آخر أقوى وأبقى، ممّا يجعل قوة الحياة قادرة على الانتصار المتكامل ما استمرت الحركة المبدعة.
فالإنسان ـ المعاصر ـ ومع تحقيق وجوده بقدرته على الإحاطة بالمعلومات الموضوعية المعاصرة لا يكتمل إلا إذا أدرك وعايش كلا من الموت الشخصي، والموت الحتمي لأفراد النوع، بحجمه الموضوعي في مكانه المناسب من الوعي الآني.
تاسعاً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يتمكن من الحفاظ على نشاطه الذهني ليتحمل مسؤولية موسوعية المعرفة (التي لم تعد في حاجة أن نزحم بها أدمغتنا بعد أن وجدت لها مكاناً في الأشرطة والأسطوانات المضغوطة والممغنطة بما يتيح فرصة حقيقية للعقل البشري أن يتفرغ لإعادة ترتيب المعلومات دفعاً إلى التوازن الخلاق.
عاشراً: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يرعى ما وصله من معارف كقاعدة انطلاق إلى ما لا يعرف (الذين يؤمنون بالغيب).
حادي عشر: يكون الإنسان المعاصر صحيحاً نفسياً بقدر ما يتمتع به من حرية واعية، وذلك بعد أن أتاحت وسائل الاتصال فرصاً أكبر لحرية أصدق، وكل هذا أصبح تحدياً حقيقياً إذ أنّه يتيح الفرصة للإنسان العادي أن ينتقل عبر عشرات الآلاف من الأميال باللعب في زر عن بعد، فالحرية هنا أصبحت فرصة رائعة للتوازن، وهي أيضاً امتحان خطير للاختيار، بقدر ما هي تحد مرعب لما يصاحبها من مسئولية.