طارق فقيه

مُعَلّمُ النّاسِ الخير

خرجت ذات يوم من بيتي صباحًا لشراء لوازم الإفطار، فقابلت خلال نصف ساعة ثلاثة من طلابي في أماكن مختلفة، عرفت أحدثهم سنًا؛ لأنه قريب عهد بالتخرج من المدرسة ولم أعرف الاثنين الآخرين؛ لأنهم كانوا رجالًا ناضجين غيرتهم السنين، ولكنهم عرفوني وسموني باسمي وقابلوني بكل تقدير وأدب واحترام، وطبعوا على رأسي قبلات يخصون بها آباءهم والأعزاء من ذويهم.

هذه المواقف ولله الحمد لم تكن المرة الأولى ولا أحسبها الأخيرة، لكن لعل الشعور الذي لامسني هذه المرة وأنا أغادر سلك التعليم متقاعدًا كان شعورًا مختلفًا، دفعني للكتابة عنه وعن رحلة التعليم التي عشتها، وإن كانت المشاعر تستعصي أحيانًا على الوصف ويخذلك عن التعبير الحرف. لكنه كان إحساسًا جميلًا وشعورًا عظيمًا قد لا يشعر به عبدة الدرهم والدينار، لكنه يحرك أهل السبورة والقلم والكتب والاستذكار.

هؤلاء الرجال الذين يحملون المشاعل اليوم في العلم والعمل، ويبنون الأوطان في مختلف المجالات، كانوا بالأمس صبيانًا في قاعات الدرس يتأففون، ويشتكون من حزم المعلمين وشدتهم وكثرة الأعباء التي يتطلبها التعلم، والتي كانت تشعرهم أحيانًا بالضجر، لكنهم اليوم بعد أن فقهوا وعقلوا يحملون لنا في قلوبهم مشاعر الود والتقدير، وهذا لعمري في حق معلمين الناس الخير ليس بكثير.

وإن كنا نحن أيضًا المعلمين من أولئك الصبيان كثيرًا ما كنا نشكو فنحن عندما نلتقي بهم بعد سنوات نسعد ونزهو، وإن كنا فيما مضى من تصرفاتهم نتذمر لكننا الآن بهم نعتز ونفخر.
هذه الأحاسيس الرقيقة، جعلتني أردد في نفسي لو لم أكن معلمًا لتمنيت أن أكون معلمًا.

التعليم رسالة وما أسعدني أنني كنت أحد الرسل الذين حملوا همّ هذه الرسالة، وكلي أمل أن أكون قد وفقت في إيصال ولو الحد الأدنى منها.

أكثر من ثلاثة عقود، وأنا أستمتع بتعليمِ الأبناءِ ونشرِ المعرفةِ، وتفتيحِ الأذهانِ وتنويرِ العقولِ. وأحسب والعلم عند الله أنه كان عملًا جيدًا ووقتًا ممتعًا قضيت فيه جل عمري.

كنت أفرح بإجازتي مع أبنائي وأسرتي دون تنسيق أو تناوب أو ترتيب مع زملاء العمل. وأعود لعملي إذا عاد أبنائي لمدارسهم وأخلد للراحة إذا ارتاحوا.

لم يفرض أحد من رؤسائي علي أمرًا وفعلته مكرهًا أو مرغمًا، حتى الأنظمة التي لم أكن على قناعة بها كنت أنفذها حسب طاقتي وأكيفها، وأتكيف معها على مبدأ لا ضرر ولا ضرار.
كنت أشعر بمكانتي محفوظةٌ وكرامتي مصانةٌ وجهدي مقدّر ٌوعملي له ثمرة.
حتى وأنا في مكان القيادة أحسب والعلم عند الله أنني لم أكن أنظر إلى زملائي بنظرة تعالي أو كبرياء وأنا أعلم علم اليقين أن أكثرهم أعلم مني وأكثر اطلاعًا وثقافة. كنا نتحاور ونتناقش ونقنع بعضنا بالحجة والمنطق، كيف لا وأنت تتعامل مع متعلمين لا ينقصهم التفكير المنطقي ولا يقصر عن علمهم المصلحة العامة وقيمة الرسالة التي يؤدونها. ولا ينبغي في ظني أن يعامل المعلم بالجبر والأكراه وصيغة افعل ولا تفعل، ومن غير المقبول أن يهان المعلم ثم يطلب منه بناء جيل يعتز بنفسه ويعرف لذاته قيمتها ومكانتها.

وعودًا على بدء فإن كان الشعور الذي ملأني سرورًا وبهجة بحسن مقابلة طلابًا كان لي شرف تعليمهم يومًا ما، فإنني وبحسن ثقتي بالله لأرجو أن أكون وكل من حمل راية التعليم ممن يستغفر لهم أهل السماوات والأرض وحتى الحيتان في جوف الماء. والله ذو فضل عظيم.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. بارك الله فيك ايها القائد الملهم
    وجزاك خير الجزاء على مجهود سنوات في تربيه الأبناء وتعليمهم

  2. بارك الله فيك
    كنت زميلا وقائدا
    واستفدت من خبرتك
    وأبدعت فيما كتبت

  3. بارك الله فيك
    نعم القائد والزميل
    وأستفدت من خبراتك
    وأبدعت في كتبت

  4. شكرا لتعليقك، وأنت من خيرة من زاملت من المعلمين. معلم موهوب ومبدع وخلوق .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى