المتتبع للمشهد الاقتصادي الإيراني يلحظ أن إيران في الأشهر القليلة الماضية وتحديدًا بعد سريان فرض العقوبات الأمريكية ليست هي إيران بعد إنجاز الاتفاق النووي، فالأوضاع الاقتصادية الإيرانية بلغت وضعًامأساويًا في أواخر العام 2011م ما أدّى إلى اندلاع مظاهرات شعبية كبيرة في أكثر من مدينة إيرانية كادت تعصف بالبلاد وما فيها، في ظل انشغال الحكومة آنذاك بالتدخلات العسكرية في سوريا والعراق واليمن عبر أذرعها ومليشياتها العسكرية، واستمر الوضع الاقتصادي في الهبوط المتسارع والمتهور إلى بدايات العام 2016م؛ حيث نجحت الدبلوماسية الإيرانية نجاحًا كبيرًا في رفع العقوبات الدولية عن بلادهابعد الاتفاق النووي، الأمر الذي ساهم نوعًا ما في هدوء الأوضاع وعودتها إلى طبيعتها مع وعود بانتعاش الاقتصاد مرة أخرى، إلا أن المظاهرات ولو أنها متقطعة كانت مستمرةً ومتجددةً؛ وكأنها وقودُ معدٌّ للاشتعال عند أي أزمة وتحت أي ظرف!
إذن مفتاح الضغط على الحكومة الإيرانية أو أي حكومة هو تحريك الشعب ضدها، وتحريك الشعوب لا يكون فعالًا إلا بخنق الحكوماتبالعقوبات الاقتصادية!. لذلك جاء انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي كمقدمة لتنفيذ عقوبات جديدة على إيران وبالتالي الضغط عليها، وهذا ما أعاد الشعب الإيراني مرة أخرى إلى نقطة الصفر، وجعله في مواجهة مباشرة مع الحكومة.. بلا شك مثل هذا الوضع أربك الساسة الإيرانيين وشد عليهم الخناق وجعلهم في موقف حرج لا يحسدون عليه! وحتى لا تقع الحكومة الإيرانية في مواجهة شعبية اختارت تحريك عملائها في المنطقة نحو التصعيد المباشر في مياه الخليج من خلال استهداف السفن التجارية بالقرب من دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن خلال جماعة الحوثي باستهداف أنابيب أرامكو والمطارات المدنية في المملكة العربية السعودية، لعل وعسى أن يكون هناك مباحثات ومفاوضات مباشرة أو غير مباشرة إما مع السعوديين للتفاهم على ما يدور في المنطقة أو مع الأمريكان والدخول في اتفاق نووي جديد يحل الأزمة الاقتصادية ويضمن للحكومة شيئًا من ماء وجهها أمام الشعب.
في المقابل أظهرت السياسة السعودية بقيادة ملك الحزم الملك سلمان وولي عهده الأمير الشاب محمد بن سلمان وعيًا كبيرًا بعدم الانجرار نحو مواجهة عسكرية مع إيران، واكتفت المملكة بضبط النفس وتوجيه ضربات جوية مركزة ومحددة على جماعة الحوثيين في اليمن، الهدف منها تدمير مواقع الحوثيين ومنصات إطلاق الصواريخ الباليستية، وكف الأذى،وفي الوقت ذاته تحركت السعودية دبلوماسيًا بشكل إيجابي نحو إعادة الصف الخليجي والعربي والإسلامي، وبناء تصورات جادة ومواقف موحدة من خلال قمم مكة الثلاثة.. أمريكا هى الأخرى تدرك أن ورقة العقوبات الاقتصادية هي ورقة الضغط الأنجح والأكثر تأثيرًا من الإقدام على المواجهة العسكرية التي إن حدثت فستكون آثارها عكسية، حيث سيتوحد الداخل الإيراني مع قادته في مواجهة أي تدخل أجنبي. وهذا ما يفسر الهدوء الأمريكي بعد حادثة ناقلتي النفط في خليج عمان.
الرسالة الأمريكية الأخيرة إلى خامنئي والتي حملها رئيس الوزراء الياباني –من وجهة نظري- أنها لم تكن تراجعًا أمريكيًا ولا تنازلًا عن العقوبات، وكذلك الرفض الإيراني لتسلمها لم يكن ثباتًا في الموقف وتحديًا لأمريكا، إنما أمريكا تسعى للضغط على الحكومة الإيرانية من خلال زيادة التوتر الداخلي وخروج الشعب الإيراني إلى الميادين في المدن والمحافظات محتجًا على وضعه الاقتصادي، وقد تنجح أمريكا في هذا المسعى إذا ما بقيت الأوضاع كما هي ولم تتطور إلى صدام عسكري مباشر. بينما الحكومة الإيرانية تختنق وتبحث عن مخارج مشرفة تضمن عدم تفجر الأوضاع الداخلية، والمتابع لاتجاهات السياسة الإيرانية يعلم أن هناك خلافات وصراعات في إدارة الأزمة الاقتصادية وملف الاتفاق النووي وما يترتب على ذلك من آثار ونتائج، وما استقالة جواد ظريف من وزارة الخارجية وهو المهندس الأول للاتفاق النووي إلا إشارة واضحة على المعارك الناعمة بين السياسيين الإيرانيين.
ضبط النفس و الإبقاء على الضغوط الاقتصادية على إيران أكبر وقت ممكن هو سبيل الانتصار عليها، وفيه كبح لطموحها وتحجيم لأطماعها، وربما كانت فيه نهايتها وتمزقها عرقيًا.. الاستعداد الكامل والجاهزية للدخول كبديل محتمل في الأسواق المعتمدة على النفط الإيراني هو الآخر عامل مهم لزيادة الضغط على إيران ليس لفترة محدودة فحسب بل ربما لسنوات طويلة.. بقي أن نتذكر أن الدول التي تتمتع بقياداتٍ ونخبٍ واعية هي دائمًا لا تبحث عن الحروب والصراعات وإنما تبحث عن استقرار أسواقها ونمو اقتصادها، وهذا هو بالفعل ما يبحث عنه سمو ولي العهد، حيث إن نمو اقتصادنا وتطوره واعتماده على موارد أخرى غير نفطية هى رؤيته –حفظه الله- وحفظ لبلادنا أمنها واستقرارها.
وجهة نظر ثاقبة بارك الله فيك بروف بندر .