يبدو أن المُثل والمبادئ التي نشأت عليها معظم وسائل الإعلام العالمية قد أصبحت من منسيات بعض هذه الوسائل في عالمنا العربي، فقد تضخمت أناها وظنّت نفسها أنها فوق المبادئ والمثل والأخلاق فأخذت تطيح بكل ما يحيط بها يميناً ويساراً كالثور الهائج الذي يعتقد أنه أقوى وأذكى وأشجع من البشر الذين يتراكضون أمامه ناسياً أنهم إنما يفعلون ذلك كي يسوقوه إلى الحلبة التي سيتم فيها القضاء عليه.
وتأتي فضائية ”الجزيرة” في مقدمة هذه الوسائل التي ما فتئت تقدم الدليل تلو الآخر على تضليلها لا للمتلقي العربي فحسب بل وللمتلقي خارج حدود الوطن العربي.
لقد انكشفت الأوراق وخسرت قناة ”الجزيرة” ملايين العرب في لعبتها المفضوحة بعد أن بنت أمجاد مصداقيتها المزعومة على الدم العربي وبخاصة الفلسطيني لتنقلب بعد ذلك على هذا الدم مستخدمة (الثورات) العربية فضاء للإسهام في تمرير سايكس بيكو الجديدة عبر مساعديها من المعارضين الذين يحرثون في النار لحرق الأوطان وهم يتقلبون في (جنات) العمالة وعبر كتاب أناشيد الخراب والدعوات المكشوفة إلى قوى الاستعمار الجديد لأخذ الأوطان باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد كانت الطامة الكبرى حين رأينا الحقائق تشوه والأخبار الكاذبة تنتشر والتحريض الداخلي وغياب الرؤى والحلول. حيث كانت ولا زالت قناة ”الجزيرة” تتعامل بطريقة انتقائية عبر مسميات ربيع الثورات العربية، وحديث الثورات العربية بتسخير شاشاتها لتأمين تغطية موتورة حاقدة مملوءة بالتحريض والتلفيق والتزييف والتضليل والانتقائية وغياب الموضوعية بانحياز سافر فاضح أطاح بميثاق الشرف والمهنية والحياد الذي تدعيه، وداسته بالأحذية، فبدا مانشاهده في القناة علاقة بكل شيء إلا الإعلام، وسط دهشة المتابعين والمشاهدين والمهتمين، ما استدعى منهم الفرملة وإعادة النظر بحقيقة ما يعرض ويبث ليكتشفوا خديعة ”الجزيرة” الكبرى والأجندات المرسومة التي لم تكن يوماً إلا مطية وممراً للمشروعالأمريكي ـ الإسرائيلي في المنطقة العربية، للسيطرة على منابع النفط والثروات العربية، والموقعالجيوسياسي الذي يميز هذه المنطقة من العالم.
فقناة الجزيرة انفضح أمرها، وأصبح أدائها الإعلامي مثل لوحة فسيفسائية جديدة من تركيب للألوان عجيب وهجين: من التعتيم الكامل على ما يجري في بلد، إلى التشديد الكامل على ما يجري في ثان إلى التحريض على نظام في بلد ثالث وهكذا دواليك، والضحية في هذا كله هي الرسالة الأصل: الخبر هكذا يتحول الخبر إلى موقف سياسي: بحجبه هنا وبتضخيمه هناك. بل هكذا يقع إنهاء الخبر من الأساس والتعويض عنه بالموقف السياسي.
فالكيل بمكاييل أصدق وصف لـ ”فلسفة قناة الجزيرة”، فهي هنا ثورية تبز الثوريين أنفسهم وتملي عليهم الخيارات والشعارات، وتخلط بين حابلهم ونابلهم، فتستضيف منهم النبيل والنظيف، مثلما تستضيف منهم من أجمع القوم على طويل خدمته لإسرائيل، وهي محافظة ورجعية تلوذ بالصمت على شرائع القرون الوسطى، ولا ببنت شفة تنبس عما يجري وراء ستار التعتيم المطلق، وما أغنانا عن القول أن الانتهازية والنفاق جوهر أية سياسة تكيل بمكاييل: في السياسة أو في الفكر أو في الإعلام، إذ هي تفتقر إلى أي مبدأ أو وازع أخلاقي يعصمها من السقوط المعنوي وفقدان المصداقية التي هي رأسمال السياسة والإعلام في عالم اليوم.
فدولة قناة ”الجزيرة”، تحاول وبسلاح ”الجزيرة” تغيير الخريطة السياسية للمنطقة برمتها، ومصادرة القرار السياسي لقوى وَجدت نفسها مربوطة بخيط هذه الإمارة الصغيرة، ومعلقة في فضاء جزيرتها، فإما أن تنصاع وتعلن الطاعة (وتأخذ المال والدعاية) وإما بالإمكان إسقاطها بسهرتين تلفزيونيتين تحريضيتين. ويبدو أن حكام تلك ”الجزيرة” الإعلامية، انهمكوا في الدور تماماً، لدرجة أنهم يتصرفون في المنطقة الآن، كقوة عظمى.
قوة قوامها: محطة تلفزيونية ومليارات لا تحصى من الدولارات، ورصيد يبلغ صفراً من الديمقراطية والتعددية السياسية وحقوق الإنسان. أي أن الحراك العربي الذي بدأ لأجل الديمقراطية والحرية والمشاركة في القرار السياسي، ولأجل أن يكون المواطن العربي حراً كريماً في بلده، يراد له أن ينتهي عند عرش هذا الأمير النفطي أو ذاك، وهم التابعون أصلاً لقوى استعمارية خارجية، ولا يملكون قياد قرارهم السياسي، ويقال لنا الآن، أن إعلامهم يعمل لمصلحة الشعوب وحريتها وكرامتها.
هؤلاء الذين يُعتبر انتقادهم من قبل أي مواطن في بلادهم جريمة لا تغتفر، ومن الكبائر التي لا كفارة عنها سوى القتل أو السجن أو النفي.
لسنا هنا لنذكر أمثلة على ذلك (فالحقيقة كالشمس لا يستطيع أحد أن يحجبها) ولسنا هنا أيضاً من باب الهجوم على القناة، ولكننا سنحاول استعراض معلومات عن قناة الجزيرة، ونحللها بهدف الوصول إلى جزء من حقيقة القناة ودورها السابق والحالي. هي إذا مجموعة من الأسئلة المنطقية حولها ونترك الإجابة للقارئ، وسوف نسلط الضوء على بعض من ممارسات ”الجزيرة” التي شكلت خطراً حقيقياً على الأمة العربية، وتلاعبت إلى حد كبير بعقل المشاهد العربي. لا بد في البداية من الاعتراف بتلك الحرفية الكبيرة التي يؤدي بها كل العاملين في قناة ”الجزيرة” عملهم، وليس المهنية الكبيرة إذ أن هناك فرقاً بين الحرفية والمهنية. فبينما تعني الحرفية إتقان الحرفة وصولاً إلى الإبداع فيها في بعض الأحيان، تعني المهنية أن تكون حرفياً مع مراعاة الأخلاق والصدق في العمل.
فقطر ليست دولة بترولية ثرية ـ وإن كان الغاز المسال هو مصدر دخلها الأول ـ مثل السعودية أو الكويت لتتحمل كل هذا الإنفاق الخرافي على قناة الجزيرة بدون أي هدف. فأمير قطر له علاقات قويه جداً بأمريكا، وهو واحد من أفضل أصدقائها (أتباعها) وحلفائها في المنطقة وقد تجسدت هذه الصداقة (التبعية) في إقامة أكبر قاعدة عسكريه أمريكية في المنطقة في قطر والرجل لم ينكر أبداً علاقته القوية بإسرائيل، الأمر الذي يجعله يقيم مكتب للتمثيل التجاري لإسرائيل في قطر بدون أي مبرر.
فهل ينفق أمير قطر كل هذه الأموال لقناة إخبارية يمكن أن تعمل بحق ضد حلفائه وأصدقائه في واشنطن وتل أبيب…؟
أما القول أن رغبة أمير قطر في تمويل قناة تهتم بالديمقراطية في قطر وغيرها، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدعي إنسان أن صاحب قناة ”الجزيرة” يؤمن بحريه الكلمة وحرية الإعلام، وأنه يكلف نفسه كل هذا الإنفاق لخدمة ذلك، فهو أمير قطر أي أن نظام الحكم أميري، الأمير فيه يحكم حكماً مطلقاً، لا وجود لمجلس شعب أو نواب ولا وجود لأي رقابة شعبية على إدارته هو أو حكومته لشؤون بلاده، بل ولا يجرؤ أحد من شعبه أن ينطق بكلمة عنه أو عن أسرته على الرغم من معرفتنا كيف تولى أمور الحكم؟ وما هي الصراعات التي نشأت داخل العائلة الحاكمة…؟
ومن منطق قراءة ما تذهب إليه محطة ”الجزيرة”، أسجل العديد من النقاط التي أتمنى أن تعجب من يَطرب للجزيرة وشفافية الخبر حين يطل علينا مذيعوها وكأنهم يحاربون في قاعدة السيلية...
أولا: لقد أنجزت الجزيرة مهمتها الأولى بأن نقلت الصورة التي تريد أمريكا ومعها الاتحاد الأوروبي وغدت طرفاً مصدقاً تبنى على أساسه التقارير… وكم سمعنا من أمريكا وأوروبا أن ”الجزيرة” كاذبة وبخاصة في الموضوع الفلسطيني واللبناني واليمني والليبي والجزائري والتونسي والسوداني…
ثانياً: نجحت المحطة في إظهار هويتها السياسية بعد سنوات طويلة من التخفي وراء شعارات كبيرة… أقنعت فيها الشارع أنها صوت الحقيقة.
ثالثاً: تمكنت ”الجزيرة” من توسيع دائرة مراسليها حول العالم ولكن هذه المرة بلا حدود وأعطت للمراسل حق الكلام حتى الثمالة… ودون أن يدخل في دورات تؤهله لذلك… فكل مراسل له الحق في الاتصال متى شاء ومتى رغب والخط لا يقطع إلا في حالة واحدة أن يخرج عن المتفق عليه.
رابعاً: علمتنا الجزيرة أن لغة الأرقام تنبع من حالة الود والخصام … فتركيا و أمريكا وإسرائيل لا يعدان… أما السعودية ومصر… فهما تحت المجهر.
خامساً: أظهرت المحطة كم الحب الذي تختزنه للشعوب العربية إلى درجة أنها نسيت أو تناست أن تغطي الكثير من الأحداث الفلسطينية والانتهاكات الإسرائيلية اليومية… وهذا بحد ذاته سؤال مشروع لمن يرى فيها منبراً حراً يناصر قضايا الشعوب العربية.
سادساً: قد يكون للجزيرة جمهورها العريض الذي يرى عكس ما نراه، ولكن لن يطول الوقت حتى تؤكد لهم عكس ما يعتقدون وبخاصة أنها بدأت بحربها على رموز الدول الصديقة والعدوة…
سابعاً: من يتابع الصحافة الإسرائيلية فسيجد قلة بل ندرة بالمقالات التي كانت تهاجم ”الجزيرة” وأصبحت اليوم مرجعاً للقناة العاشرة، ومن يشكك بذلك فليتابع القناة الإسرائيلية العاشرة.
ثامناً: دون أن تقصد جعلتنا نفتش في مفرداتها عن أسباب انفلاتها من عقالها، والبحث في سياسات لدول عربية قدمت نفسها على أنها تخدم قضايا الأمة وتحاول أن تكون متوازنة لدرء الشبهات.
تاسعاً: ما دامت ”الجزيرة” حريصة كل هذا الحرص على القضايا العربية، فلماذا لا تفتح ملف القواعد الأمريكية ودور قاعدة السيلية… في قطر ودورها في الحرب على العراق والعلاقات السرية والعلنية مع إسرائيل والمكاتب التجارية.
وبما أن قناة ”الجزيرة” قناة قطريه أقامها حاكم قطر، وينفق عليها بأموال قطر، فالمنطق أن يكون الشأن القطري على قمة أولويات قناة ”الجزيرة”. ذلك أن للإعلام دوراً مهماً في الرقي بمستوى الدول وفي تحقيق قدر من الرقابة والشفافية وغير ذلك. ولكن منذ أنشئت قناة ”الجزيرة” لم يحدث أن تعرضت في أي من برامجها إلى ما يحدث في قطر، موقف غريب حقاً فهل هو ناتج عن أن القائمين على قناة ”الجزيرة” يرون أن دولة قطر أصغر وأضأل من أن يهتم بها متابعو برامج الجزيرة؟ أم أن قطر تحولت إلى جنة حقيقية على الأرض حيث العدالة والحرية وتكافؤ الفرص والمساواة وتوزيع الثروات، وحيث لا يوجد مشكلات تحتاج إلى أن تلقى عليها قناة ”الجزيرة” الأضواء؟
أتصور أنه لا هذا ولا ذاك فقطر دولة عربية ولها الكثير من المواقف التي قد نتفق معها أو نختلف معها ولكنها مواقف تستحق أن تناقش على قناة ”الجزيرة” والشأن الداخلي في قطر يهم كل عربي باعتبارها دولة عربية شقيقة مثلما يهمنا أمر الجزائر وتونس وليبيا والسودان والصومال وجزر القمر… وكلها دول عربية ولكن أتصور أن هناك خطاً أحمر على قناة ”الجزيرة” ألا تقترب أبداً من الشأن الداخلي في قطر وقناة ”الجزيرة” حريصة على التقيد بهذا الخط الأحمر، فكل العاملين بها يدركون حقاً ما قد يحدث إذا فكروا مجرد التفكير في تجاوز هذا الخط الأحمر الذي فرضه صاحب القناة، وبذلك لا يكون هناك أي مجال للحديث عن أن الانتصار لحرية الكلمة وحرية الإعلام كان أحد أسباب إنشاء قناة ”الجزيرة”.
فنحن الآن لا نتحامل على قناة الجزيرة، لكننا نريد كشف الحقائق والدعوة إلى أخذ الحيطة من إعلام قناة ”الجزيرة” الموجه، وأن يدرك هؤلاء القائمون على محطة ”الجزيرة”، بأنه كان لدينا فلسطين واحدة جريحة، وبفضلهم وفضل سياساتهم صار لدينا أكثر من بلد عربي جريح…
ألم يسألوا أنفسهم من المستفيد الأول من نشر الفوضى في عالمنا العربي؟ ولماذا لم تلعب قناة ”الجزيرة” دوراً إيجابياً يعود بالنفع على الأمة العربية وتلاحمها مادامت قناتهم تهتم بمصالح الأمة العربية وشؤونها بحسب ما يقولون…!