إن المتتبع للسياسة التركية يلاحظ بوضوح أنها تجسّد سياسة السلاطين عبر التحرش بهذه الدولة أو تلك، والتصرفات الأردوغانية ليست جديدة، بل هي جزء من الأخلاقيات التركية في جميع مراحلها: العثمانية والاتحادية والعلمانية والأردوغانية. فلم يلقَ ”أردوغان” ظرفاً مؤاتياً له أكثر من استغلال وفاة الرئيس المصري المعزول ”محمد مرسي’‘ للتدخل في الشأن المصري من خلال ادّعاءات واهية تتضمن التشكيك في وفاته الطبيعية واتهام الحكومة المصرية بقتله والتلويح بإثارة الأمر دولياً، في تصريحات فجة اعتاد الرأي العام التركي والدولي على سماعها من ”أردوغان” المعروف بمواقفه الشعبوية وتوظيفه الانتهازي للأحداث.
فرجب طيب أردوغان انقلب على العديد من الدول، وانقلب حتى على رفاق دربه مثل عبد الله غل وداود أوغلو وبولنت أرنيتش… وآخرين، وهمشهم ليتحولوا إلى خصوم سياسيين له… لكن لا يتخلى عن استخدام الدين والإسلام في الجدل السياسي واستغل قضية خاشقجي من أجل مواجهة السعودية، والغريب في الأمر أنه لا يزال مستمراً في المقاربة نفسها دون تغيير.
صوت أردوغان الذي يعلو الآن، مرتبط بوتيرة من الضغط السياسي تعلو وتنخفض، وهي برأي مراقبين اعتراف آخر لقائد حزب العدالة والتنمية أن صوته هو أقوى ما لديه تجاه مصر. فقد شكلت وفاة الرئيس المصري الأسبق ”محمد مرسي” لجماعات الإخوان المسلمين في المنطقة مادة دسمة لادعاء المظلومية والبكاء والنحيب وإطلاق صلوات الغائب على ”مرسي” وإعادة تأجيج مشاعر الدهماء كما رأينا لدى الرئيس التركي ”رجب طيب أردوغان” وأمير دولة قطر ”تميم بن حمد”، وقنواتهم الإعلامية من دون أن يسأل أحد كيف تعامل ”أردوغان” مع خصومه من جماعة غولين، وكيف سجنهم ولاحقهم ولا يزال؟ لكنه يتحدث عن ”مرسي” بلغة سلطان مات عنده والٍ! وهذا ما لاحظناه لدى رثاء أردوغان لمرسي!
لا يختلف اثنان على أن استعراض العضلات الذي يقوم به أردوغان وذرف الدموع على ”مرسي” ”القيادي” الإخواني لا ينبع من مواقف مبدئية أو يعبر فقط عن تضامن مع جماعة ”الإخوان المسلمين” التي ينتمي إليها أردوغان، وإنما ينطوي أيضاً على أهداف لها علاقة بأوضاعه المهتزة داخلياً والحدّ من الاستنزاف السياسي الذي يتعرض بداخل تركيا.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتقمص شخصية السلطان العثماني الجديد، ويواجه مشاكل داخلية وخارجية، في الداخل تحديات اقتصادية، تضخم، بطالة، ضعف العملة التركية، انتكاسات في الانتخابات البلدية. في الخارج، يدعم الإرهاب في سورية وليبيا… ويقفز على الحبال الأمريكية والروسية والأوروبية وحلف الناتو. ”أردوغان” أمام خيارات صعبة. بأضعف مما كان عليه، خرج حزب الرئيس التركي ”رجب طيب أردوغان” مهزوماً من انتخابات بلدية اسطنبول المعادة، ولم تنفع كل محاولات التجييش والأساليب التحريضية التي سئمها الأتراك في استعادة بلدية اسطنبول، والتي تحمل نتائجها دلالات ومؤشرات مهمة على واقع أي انتخابات تركية قادمة. وهو القائل عام 2017: ”إذا تعثرنا في إسطنبول سنفقد مكانتنا في تركيا”.
ومن باب تأكيد المؤكد، ليست هذه المرة الأولى التي يتطاول فيها أردوغان على دولة عربية ويتدخل في شؤونها وبخاصة عندما يتعلق الأمر بـ”الإخوان المسلمين” أو بأحلامه العثمانية، إذ لم يعد سراً على أحد ما قام به أردوغان ولا يزال ـ سواء داخل تركيا أو خارجها بدءاً من حملات القمع والاعتقالات وليس انتهاء بالتدخل السافر في شؤون الدول الأخرى.
النظرة التحليلية للواقع التركي الراهن، تكشف عوامل قلق ”أردوغان”، فالرجل لم يتمكن من تحقيق أي من الأهداف السياسية التي لطالما جاهر بها منذ توعده بالصلاة في الجامع الأموي بسورية، أو الثأر للحليف القطري عبر الإطاحة بولي العهد السعودي، وغيرها من الرهانات السياسية الخاسرة التي أوصلت تركيا إلى نقطة الـ”صفر جيران”، نقيض المعادلة التي أطلقها شريك الأمس وخصم اليوم ”أحمد داوود أوغلو” المتمثل ”بصفر مشاكل مع الجيران” الذي شكل في حينه أساس الانفتاح التركي نحو الشرق العربي بعد عقود من غياب دور تركي فاعل إقليمياً بفعل شعار أتاتورك الشهير مع تأسيس الجمهورية عام 1923 ”سلام في الوطن، سلام في العالم.”
أما في الاقتصاد فالجرح الأردوغاني يبدو أكثر ألماً في ظل الأرقام والمعطيات التي تشير إلى تراجعه والانخفاض الحاد في نسب النمو، والركود الصناعي وبخاصة في مجال المقاولات عماد الانتعاش الاقتصادي في الأعوام السابقة، إضافة إلى مرور الليرة في أسوأ أزمة للعملة التركية منذ اعتماد صيغتها الحالية محذوفة الأصفار. فحالة الانكماش الاقتصادي تهدد بسحب مشروعية بقاء ”أردوغان”، وهو ما يدركه جيداً، الأمر الذي يفسر اندفاعه نحو الهروب الدائم إلى الأمام عبر الأيديولوجيا بل والانزلاق نحو التطرف فيها، على نحو ما شهدناه يفعل في التاسع من آذار الماضي عندما ألقى في مدينة سعود شرقي تركيا قصيدة للشاعر ضياء غوقلب كانت قد أدت إلى سجنه في العام 1999، تقول القصيدة: ”المآذن رماحنا، وقببنا خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا”. هذا الهروب إلى الأمام يشير إلى واقع مأزوم، وعندما تفرض متطلبات البقاء أثماناً تفوق قدرات ركائز المسيرة عندها يبدأ الولوج إلى المستنقع.
مات ”مرسي” ونقول لوسائل الإعلام التي تتغنى بشخص أتى للحكم بالمصادفة التاريخية، أنه ذهب ولم يترك إرثاً سياسياً يمكن التغني به. ”مرسي” مثل أردوغان مثل كل جماعات الإخوان مشبوهون في كل شيء. ومستشار رئيس النظام التركي ”رجب طيب أردوغان”، ”ياسين أكطاي”، قال علناً ”ان إسقاط الخلافة تسبب في فراغ سياسي في المنطقة، وقد سعى تنظيم الإخوان لأن يكون ممثلاً سياسياً في العالم نيابة عن الأمة، البعض منا يستخف بقوة الإخوان ويقول إنهم عبارة عن جماعة صغيرة، لكن جميع الحركات الإسلامية اليوم ولدت من رحم جماعة الإخوان…”وأضاف ”أكطاي” إن لجماعة الإخوان ”فروعها الخاصة وفقهها الخاص، وهي تمثل اليوم ذراع للقوة الناعمة لتركيا في العالم العربي، فهذه الجماعة ترحب بالدور التركي في المنطقة… وهم بالتالي ينظرون إلى الدور التركي على أنه النائب للخلافة الإسلامية التي تم إسقاطها سابقاً”.
ولتحقيق هذه الأجندة، وجدت تركيا في الإخوان حليفاً وثيقاً، لاسيما أن الحزب الحاكم ليس ببعيد عن مبادئ تنظيم الإخوان. وعندما بدأ النظام التركي تحركه التوسعي، كانت جماعة الإخوان إحدى الركائز التي اعتمدت عليها، ليرتبط الاثنان بعلاقة مصالح وثيقة، فأردوغان يحتاج إلى ”الإخوانيين” للتجييش الداخلي في الخطابات الشعبوية والاستمرار بالقبض على مقاليد الحكم، وفي نفس الوقت لاستخدامهم في مشروعه الخارجي.
أما الإخوان، فهم بأمس الحاجة للملاذ الآمن في هذه المنطقة التي لفظتهم بعد أن كشفت الشعوب العربية نفاقهم القائم على اللطميات والادعاء أنهم ضحايا لعقود من الاضطهاد، وأنهم يحملون الحلول لمشاكل العرب، لكنهم وفور وصولهم إلى الحكم نكلوا بالشعوب وضاعفوا المشاكل العربية، ففروا حاملين خيبتهم وقد خلفوا في بعض الدول العربية إرثاً ثقيلاً من الإرهاب والفشل كانوا السبب فيه، ووجدوا في أنقرة الحضن الدافئ الذي يؤمن لهم القاعدة للانطلاق في تطبيق أفكارهم واللجوء إلى العنف المسلح ”الإرهاب” لضرب الدولة الوطنية والانقضاض عليها بعد ذلك.
في كل الأحوال فإن ”مرسي” مات، وليس من حقنا أن نترحم أو لا نترحم فالرحمة من الله، والحقيقة التي لا مفرّ منها، أننا كلنا سنموت يوماً ما، ولكني من الذين يعتقدون أن موت ”مرسي” سيسعى من خلاله الإخوان المسلمون بدعم قطري ـ تركي للاستثمار فيه سياسياً وإعلامياً، وإعادة نبش الجمر من تحت الرماد من أجل تقويم أنفسهم، واللعب على قضية المظلومية، وتحريض الشارع من جديد، والهدف هو مصر كدولة، وكبلد عربي… فمصر تبقى أكبر من الأشخاص.
في الختام: نصيحتنا لأردوغان ألا يراهن كثيراً على المستحيل، فقناعته أن تركيا ستكون وراءه حتى النهاية في سعيه وراء كرة النار قد يكون مخطئاً، كما أن أحلامه في أن يخطب بالتركية في ميدان التحرير بمصر المحروسة، تقف أمامها عوائق كثيرة، يفترض أنه يعرفها. من الأجدر للرجل أن يتوقف عن الحديث، ذلك أنه كلما فتح فمه عن مصر، زرع شتلة كراهية لدى المصريين تجاه تركيا، وهذا لا نرضاه لتركيا الشعب وليس القيادة.