أول من استخدم هذه العبارة وكانت عنوانًا لأحد كتبه هو عبدالله القصيمي؛ وذلك في معرض نقده اللاذع للسلوك السياسي العربي؛ كناية عن كثرة خطب العرب الرنانة التي تلهب المشاعر، وتثير الحماس في حين أنها لم تكن أكثر من كلمات براقة وخطب جوفاء لم تجلب سوى الدمار والهزائم العسكرية والتخلف والاستبداد.
ولعل أشهر من ينطبق عليه وصف “الظاهرة الصوتية” الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر؛ فخطبه ساحرة ومنمقة يضاف إليها كاريزميته ما جعله يحظى بشعبية طاغية في العالم العربي وبعض دول العالم الثالث.
ولشدة تأثيره؛ فإنه يصعب وحتى يومنا هذا انتقاده أو التقليل من دوره السياسي في أي جمع من المثقفين؛ لأن من ينتقده سيوصف بأنه غير عروبي. كان من ينتقده في السابق يوصف بأنه “رجعي وعميل للامبريالية وانبطاحي وزئبقي” إلى آخر هذا “القاموس التقدمي”، وهي الأوصاف التي تدخل كذلك ضمن مفردات الظاهرة الصوتية.
وعندما نقول لمناصري عبد الناصر إن الرجل أخفق في تحقيق ما كان يتحدث عنه فإنه سرعان ما ينبري بعضهم للقول بأن إخفاقاته تعود إلى عوامل ومؤامرات خارجية، وليس بسبب فشله وذلك لتبرئة الرجل، ومن ثم الاستمرار في تصنيمه. الأحداث التاريخية التي نعرفها تقول إن عبدالناصر دخل في حرب اليمن مناصرًا للجمهوريين وثورتهم ما تسبب بإشعال حرب أهلية في اليمن، في حين أن جبهته الشرقية المحاذية لإسرائيل كانت مكشوفة وهو ما اتضح جليًا عام ١٩٦٧ وحرب الأيام الستة التي أنهت عبدالناصر معنويًا، وأبطلت ظاهرته الصوتية.
وقد تخصص الرجل في تأييد ودعم إسقاط الأنظمة الملكية تحديدًا، وهو الأمر الذي نجح في العراق (١٩٥٨) ثم اليمن (١٩٦٤) ثم ليبيا (١٩٦٩) إضافة إلى محاولات لم تنجح لزعزعة نظام الحكم في المملكة وبعض دول الخليج؛ وكلها محاولات باءت بالفشل الذريع.
والمتأمل لوضع الأنظمة العربية الراهن سيكتشف ودون عناء أن الأنظمة الملكية القائمة الآن هي الاكثر استقرارًا وتقدمًا؛ من المغرب غربًا، وحتى رأس الخيمة شرقًا مع تفاوت نسبي فيما بينها بالطبع، بينما فشلت الجمهوريات الثورية تمامًا في ترسيخ الديموقراطية التي تغنت بها، كما فشلت في خلق الاستقرار السياسي المطلوب كشرط أساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفاهية شعوبها.
وقد يجادل البعض أن نجاح دول الخليج مثلًا مرهون بقدراتها المالية بسبب النفط فقط، بينما يتناسون أن الأردن والمغرب يفتقران للموارد الضخمة؛ ومع ذلك فهما يتمتعان بمستوى جيد من الاستقرار، ويتقدمان بخطى حثيثة في عدة ميادين رغم شح مواردهما. وفي ذات الوقت يتناسون أن العراق “الثوري” دولة نفطية وغنية، ومع ذلك فهو دولة غير مستقرة.
ذات الظاهرة الصوتية تكررت مرة أخرى عام ١٩٩٠ ولكن هذه المرة مع صدام حسين وعنترياته وتهديداته بمحو إسرائيل من الخارطة وقصة المدفع العملاق وأم المعارك. وفي النهاية يقع الرجل، ويوقع الجميع معه في الفخ الأمريكي بعد اجتياحه للكويت لتنتهي ظاهرته الصوتية بصورة مذلة ليس فقط له، ولكن للعرب الذين شايعوه وناصروه أثناء حربه العبثية والطويلة مع إيران. خطب صدام وتصريحاته وتهديداته كانت مما يعشق العربي سماعه بحكم “متلازمة الظاهرة الصوتية” ومقدار ما تحدثه في الذهنية العربية من تأثير يشبه الخدر.
والقصة برمتها هي أننا كعرب نقول ولا نفعل ونصفق ونطبل كثيرا، بل ونصنم الظواهر الصوتية بصورة مريعة للدرجة التي جعلت القصيمي مرة أخرى يطرح السؤال: أيها العقل من رآك، والذي كان عنوان أحد كتبه كذلك.
ومن الظواهر الصوتية الأخرى التي ابتلي العرب بها الرئيس الليبي السابق معمر القذافي؛ فقد كان يمكث الساعات والساعات وهو يخطب ويلهب حماس الجماهير التي رأت يومًا ما أنه “ضرورة تاريخية”، لكنها ما لبثت أن تخلصت منه بطريقة مهينة عندما سنحت لها الفرصة للقيام بذلك.
نحن في الواقع أمة بلاغة والكلمة عندنا لها مفعول السحر حتى لو كانت أكذوبة أو وعود معسولة لن تتحقق. نحن “نهايط” بصورة مؤذية لنا قبل غيرنا، وكل ذلك بسبب متلازمة الظاهرة الصوتية وعشقنا للكلام المنمق والمحسنات البديعية.
فيا أخي العربي: اخفض صوتك قليلًا أو اسكت فنحن لانريد أن نسمعك، لكن اعمل فعملك هو ما سوف يساعدنا على التقدم والخروج من المأزق الذي وضعتنا فيه الظاهرة الصوتية.