كم هو جميل أن ترى أديبًا كبيرًا، وتحاوره وتتدرّب على يديه، وتسمع نقده وهو يغرف من خبرته .. أن تتغيّر تلك الثقافة الرأسية التي عزلتْ الأدباء عن الشباب، واحتكرتهم في زوايا الأندية الأدبية، والندوات والمحاضرات الأكاديمية.
لقد ملّ الشبابُ المهتم بالأدب والفكر من دور المستمع في المحاضرات والندوات، حتى إذا ارتفعتْ أناملُهم للمشاركة؛ وقفَ أمامهم صفٌّ من أصدقاء المحاضِر وشِلّته؛ فحُرموا حقّ التعبير والتعليق حين يُنهي المقدّمُ اللقاءَ بكلمةِ: نكتفي بهذا القدر (المُنتقى والمعدّ سلفًا). ناهيكَ عن الأبراج العاجية التي يعيشُها بعض الأدباء والمفكرين واشتراطاتِهم المبالَغ فيها للجهات المُستضيفة.
ولعلّ تلك الصورة بدأتْ تتغيّر؛ حيث مررْتُ في الأيام الماضية بتجربة تدريبٍ للكتابة لم أحلُم بها – وأنا أكتبُ بالصحافة بشكل متقطّع منذ 20 عامًا – حين التقيتُ أستاذنا الأديب د.سعيد السريحي في دورة “الكتابة الصحفية” من تنظيم “معهد الثقافة والفنون للتدريب” (ثقّف).
فرغم أنها المرة الأولى التي يقدّمُ فيها نفسَهُ كمدرّب للكتابة الصحفية إلا أنّ رصيدَه من التعليم المدْرسيّ والجامعيّ؛ إضافةً للعمل داخل أروقة الصحافة فترةً قاربتْ العقديْن؛ بدا ظاهرًا في تمكّنه التدريبيّ مع جيلٍ عرَف الدورات التدريبية بأشكالها المتعدّدة وحداثتِها المتطوّرة.
لم يكن السريحي مجرّد مدرّب يضع متدرّبيه على منصةِ الفعل لمهنة المتاعب، بل كان أبًا في صبره واحتوائه، وحكيمًا يغرف من تجارب سنينه التي جاوزتْ الستين بكثير.
كان أصغر المتدرّبين في العشرين، من جيلٍ ربما لأوّل مرّةٍ يلتقي أديبًا عركتْهُ الصحافةُ، وواجه صراعات الساحة الفكرية الضارية، في زمنٍ ولّى وما زال دقيقُ طحْنه مُذرَّا بعيون ضحاياه.
هذا اللقاء بين الأجيال استطاع السريحي أن يُذيب جليدَه بتمكّن واحترافية، مستجلِبًا أدواتِه كمدرّب يحمل حقيبتَه التدريبية، ووسائله وأنشطته العمليّة، إضافة لما تجودُ به ذاكرتُه الزاخرة في العمل الصحفي بين الحين والآخر من مواقف ووقائع حقيقية، أضافتْ إلى جانب المعرفة العمليّة شاهِدًا تاريخيًا، وجُزءًا من سيرةِ أديبٍ ومفكّرٍ ربما لم تكتبْ بعْد.
لقد مارسَ الشبابُ والشاباتُ في الدورة معظم فنون الكتابة الصحفية، ونُقِدوا وانتقَدوا، وتحاوروا وعلّقوا، واعترضوا واتفقوا، ووقفوا أمام نتاجٍ ملموسٍ لهُم تحت بَصيرة ناقدةٍ – لا تُجامِل – من السريحي خلال أيامٍ معدودة، لاشك أنها مجموعة خبرات مُضافَة إلى رصيد تجارِبهم، وفرصة سانحة قد لا تتكرّر مع مدرّب بحجم السريحي.
فكل الشكر والتقدير للدكتور سعيد السريحي على هذه المبادرة الرائعة، ونرجو ألا تكون الأولى والأخيرة؛ فمَعينُه العذْب لا يزال ينضحُ بالجمال الذي تحتاجه الأجيال.
وفي رأيي، هناك 3 جهات لابدّ من تأكيدِ وإثبات حضورِها بفاعلية حتى تستمرّ وتتطوّر تلك البادرة الجميلة بين التدريب والثقافة والفنون، هي:
• وزارة الثقافة .. وليتَها تدعم هذا التوجه التدريبي بين الأدباء والمفكرين وأجيال الشباب، هذا الدعم يمكن أن يأخذ صورًا متعدّدة تأتي في شكل: اعتمادٍ للشهادة التدريبية، أو توسيع دائرة الإعلان عن هذه الدروات وتبنّيها دعائيًا كراعٍ، أو احتسابها ضمن برامج الوزارة الموجهة للشباب …
• الأدباء والمفكرون .. لا يكفي أن تبقوا على كراسِ التنظير وخلف منصات المحاضرات والندوات .. النزولُ إلى ساحةِ التدريب شكلٌ عصريّ وعمليّ آخر يخدمُ الثقافة، ويصنع حراكًا ثقافيًا ملموسًا لو أردتُم.
• معهد الثقافة والفنون للتدريب “ثقّف” .. رغم تجربتِه القصيرة زمنيًا إلا أن وصوله إلى الشباب يحتاج إلى مزيدٍ من العمل الاحترافيّ خاصةً حينما نربط بين التدريب والثقافة والفنون؛ فالعمل هنا يجب أن يكون بمستوى العصر والحداثة القادرة على جذْب الشباب في ظل الخيارات المتعدّدة والمؤثرة تنافسيًا للترفيه بهذا الوقت.
ختامًا .. هناك تلازُم ٌ فعّال بين المعرفة والتدريب المهاريّ؛ يجعلها في دائرة الفعل، ويضع ممارسَها قريبًا من إنجازه، مُمسكًا وفخورًا به .. ولاشك أن الشراكة بين أدبائنا ومفكرينا وشباب المملكة ضرورة مُلِحّة في تعزيز تلك الفعاليّة، وتقبّل التغيير الذي يمرّ بسلاسةٍ عبر عجلة التدريب؛ مما يُسهمُ في تنمية الأجيال القادمة ثقافيًا وفكريًا وفق متطلبات رؤية المملكة 2030م .