عوضه الدوسي

قرية الأطاولة والبعد الحضاري والثقافي

(مكة) – مكة المكرمة

يشهد العالم تحولات متسارعة على كل المستويات , ومسار العولمة تحف بنا من كل جانب السؤال كيف لنا ان نؤثر في مسارات الحياة مع طوفان العولمة المتلاطم ؟ وهل هذا بات امرًا محال ولم يعد بالإمكان ان ننفصل عن هذا العالم الذي بات يشكل قرية كونية كلنا نجزم بذلك في الوقت الذي لا يمكن لأي ثقافة ان تتمتع باستقلالية تامه في حاضرنا الشائك , ولا يمكن ان نقيم سياجاً للحماية من التأثر بالثقافات الاخرى بمدها العولمي , ولكن حتمية التأثر تتطلب الوعي والحيطة والحذر, وما يهمنا في هذه الجوانب هو الجانب الثقافي والحضاري , لان الثبات على الجوانب الثقافية والحضارية كفيلة بان تقودنا الى جوانب فكرية عظيمة لنمضي من خلالها وفق ثوابتنا ومقتضيات القيم والعادات , ولذا جاءت فكرة استلهام الموروثات الثقافية واخراجها في اشكال ترفيهه تروق للمتلقي ويمكن نقلها للعالمية والتعريف بها بفطنة تذاهنية من لتعرّيف الاجيال بالإرث الثقافي والحضاري وبكل سياقات الماضي وابعاده المختلفة ومن ثم الوقوف عليه في اطلالة زاهية نستشرف منها افق المستقبل .

اننا اليوم نقف على اطلالة جميلة باذخة في الروعة والجمال نطل على قرية الاطالة النموذجية بلوحاتها المخملية المتعددة وبمهرجاناتها المتنوعة , هي اليوم من دون غيرها تتوافق مع الطموحات الوطنية الكبرى وتسير وفق توجهات ومسارات الرؤية الوطنية 2030 , فعندما نستحضر احد تعريفات الحضارة فننا نقف على الثبات وعلى خط الانطلاق نحو رؤية مستقبلية على الاقل لأجيال امتنا العربية والاسلامية , فاذا كانت الحضارة هي ثمرة جهد الانسان وعطاءه فان قرية الاطاولة التراثية تمثل عين ذلك الجهد الكبير لأنسان المنطقة لان إعادة نتاج الموروث على اساس من حقيقة الماضي وتأصيله فان ذلك سوف يبث روح القيم النبيلة من ماضٍ جميل ليكوّن في نفوس الجيل والنشء الصاعد قيمة العطاء والتفاني من اجل مبدأ سامٍ يتمثل في حقيقة اعمار الارض كمستخلفين فيها , ثم لتتعاقب الاجيال ولترتدي ثوب قشيب من العزة والاصالة الذي يستمد من الماضي العريق ولينطلق الجميع بلسان الوعي والمعرفة والثقة بعد ان تدثر بالقيم والمبادي والثوابت الاصيلة , ولذا سعى القائمين على قرية الاطاولة الاثرية على ان لا ينتج الماضي إنتاجاً ميكانيكياً بل يعاد الماض وفق آليات مختلفة وبروح احيائية نهضوية لان الهدف ليس استعادة الماضي وتقصي الملامح الفكرية الكبرى في ماضينا العريق بل يجب الاعتناء بالبعد الفلسفي لكل ظاهرة فنية وثقافية لأنها بالضرورة تستبطن العديد من المدارس مع كامل شروط الوعي المواكب لكل حرفة فنية , والموروث هنا واسع متعدد وحتي لا يقال اننا نسوق جانباً تنظيرياً فقط دون ذكر الامثلة من واقع الموروث فإنني سوف اطرح مثال واحد واكتفي به وعليه نقيس فعلى سبيل المثال الرحى لم يكن قرصاً حجرياً مستديراً بطبيعته بل عمل عليه اكثر من فنيٍ وماهر وقبل هذا نوعية الحجر منتقاة بعناية وحرفية عالية بحيث يكون قوياً جداً , ويمكن ان يتشكل اثناء النحت فمسارب ومجاري الحب يجب ان تكون ملساء لتتساقط الحبوب بين فكي الرحى وهنا تكمن الحرفية للعمل المهني الصرف كذلك مخارج الدقيق من اطراف الرحى تشق مسارب صغيرة وتثلم كي تسمح بمرور الدقيق وحتى لا يتزاحم ويتكتل ويحتبس داخل قالب الرحى ,الامر الذي يرهق العامل ويضاعف من جهده دون جدوى في النتائج , ولذا ضرب في الامثال العربية مثلا بتلك الحالة (نسمع جعجةً ولا نرى طحينا) فنتائج العمل تثمر جراء حرفية المهنة وهندسة ابداعها , كذلك عصى الرحى التي يقبض عليها لإدارة القرص في الاتجاهين بحيث يمكن ان تناوب بين اليدين وقد وضعت بشكل هندسي مناسب في الطرف المتطرف الى نهاية قرص الرحى من الخارج وهكذا قرص الرحى الارضي هو الاخر يحتاج ان يكون له قاعدة مغايرة عن الاخرى لتتحدب نوعا ما لتستقر في الارض وهكذا هي اعمال هندسية فنية من جهة وبصرية جمالية من جهة اخرى تتقاطع مع الذوق العام ومع الفراغ والمكان الذي توضع فيه كل هذه المعاني تقود الى كنز من المعلومات والمعاني والمعرفة لدى المشاهد وبالتالي يستحضر الابعاد الفنية والهندسية والثقافية في تلك المرحلة من الزمان , وهذا هو ما اعنيه بالبعد الفلسفي , اما ما يتعلق بالروح النهضوية التي ذكرتها فإنني اعني بها التماهي الايجابي مع الاشياء والموجودات , لان التماهي السلبي هو اهمال الاشياء وعدم تحريكها للنظر فيها من زوايا مختلفة لرصد الابعاد الاخرى المختلفة والتماهي الايجابي هو البحث عن جوانب مهمة في ثقافتنا وتراثنا لنرتقى معها الى حالة من التراتب النسقي بين الاشكال التي سوف تودي في نهاية الامر والمطاف الى الانفساح الى اللامرئي والى فلسفة الاشياء والموجودات على امتداد جغرافية المكان والزمان , من هنا ومع الحوار يظهر لنا ملمح اخر فالذي نشاهده في الطواحين العصرية هي انها تستوحي نفس الفكرة ففي الوقت الذي عرفت فيه الرحى في كل الحضارات المختلفة تكون هي بنفس وضعيتها في موروث الجزيرة العربية, ما يعني ان انسان المنطقة متصل بالأخر البعيد على الاقل في المستوى الفكري ويتعامل مع مقتضيات الحياة والتغلب عليها وتذليل الصعاب بنفس نهج كل الحضارات , وهذه لاشك تولد علاقة عميقة موغلة في القدم وهي تحتاج الى دراسة مستفيضة وجادة للوقوف على حقائق المنجزات الحضارية والثقافية في المنطقة ونقيس على ذلك الكثير من الفنون والحرف كالحياكة والنقش والزراعة التي تخلق عند المشاهد حالة من الدهشة مع الكثير من التساؤلات فضلا عن انها تضع المتلقي في دائرة الشعور بالجمال الباذخ والرضى عن المنجز , وتستدعي حالات من التقري والتساؤلات بصيغها المختلفة, ولذا كان مهرجان قرية الاطاولة هذا العام مغايرًا حقاً ومختلف تماماً استحق كلمة المورث الحضاري والثقافي ليس لمنطقة الباحة بل لكل الجزيرة العربية فتحية من الاعماق لكل القائمين عليه . والى لقاء.

Related Articles

2 Comments

  1. اخي الحبيب / ابا عبدالملك من أي أبواب الثناء والشكر نصف ونعبر عما تقوم به من تغطيات في جميع المجالات ، فأنت كسحابة معطاءة سقت الارض فأخضرت ، او كنخلة شامخة تعطي وتطعم بلا حدود .
    فلك كل الثناء وجزيل الشكر على ماتقدم وبارك الله فيك واصلح لك الأهل والذرية وأسعدك أينما كنت في حلك وترحالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button