كان يوم الجمعة التاسع من شهر ذي القعدة 1440هـ يومًا ساخنًا جدًا بنفس درجة سخونة فرن المدن الصحراوية في عز الصيف، كانت الجموع تتجه لقاعة ليالي “تمنية”؛ حيث الشخوص تتحرك بارتباك شديد وحسابات عسيرة للغاية، وخلف القضبان يجلس المحكوم عليهما بالقصاص ولا يعلمان بما يدور في قريتهم بين رجال القبيلة والوفود التي أتت من كل حدب وصوب.
الجميع ممن حضر من مشايخ وأعيان وأعضاء لجنة الإصلاح بإمارة منطقة “عسير” ركزوا على استخدام مفاتيح الخير ليكونوا مغاليق للشر، وهدفهم الإصلاح بما يرضي الله وولاة الأمر، كان الحوار بين الأطراف شاقًا للغاية والأبواب مغلقة حتى صدح أذان العصر، وبعد الصلاة بدأت جولة جديدة من المفاوضات، وشارف الجميع على مرحلة اليأس حينها أتى النداء لصلاة المغرب فتوقف الحديث في الأمور الدنيوية لأداء الصلاة، ثم بدأت الجولة الثالثة لطرق باب الأمل، وعندها لاحت بوارق الحل عندما طلب أهل الدم مهلة للمشاورة فكانت بداية الخيط للتفاؤل بنتائج ليلة ساخنة للغاية.
عادوا بعد ساعتين من الانتظار بتسع نقاط كشروط الحصول على العفو، وكانت المفاجأة لمن حضر أن الشروط التسعة كشفت عقلية هذه القبيلة “قبيلة آل جليحة” التي أكدت أنهم قمة وقدوة لغيرهم شيمة وخلقًا وتسامحًا؛ حيث ركزوا على تطبيق العوائد والأعراف المتبعة، ولم يكن المال محور تفكيرهم نهائيًا في إشارة صادقة منهم لابتغاء ما عند الله، رغم أن أسرة المقتول تعيش تحت خط الفقر والأبناء التسعة عاطلين عن العمل.
الجولة الرابعة والحاسمة بدأت بعد صلاة العشاء، وانتهت الساعة الثانية فجرًا بإعلان العفو عن مفرح سلمان آل متعب الجليحي الذي أمضى حوالي ثمانية عشر عامًا خلف القضبان بعد قتله لخاله وضياع إحدى عشر نفسًا بريئة في دهاليز الحياة.
في يوم السبت العاشر من شهر ذي القعدة 1440 هـ، بدأت جولات جديدة من المفاوضات مع أسرة أخرى من نفس القبيلة سعيًا لتجنيب الشاب علي أحمد آل مسد الجليحي من حد السيف؛ حيث قتل شابًا من نفس القبيلة في ظروف لا يهم تفاصيلها بقدر أهمية تلك البساطة والروح السمحة التي ظهر بها أولياء الدم؛ حيث ركزوا مثل سابقيهم على العوائد والتقاليد التي تحفظ للقبيلة وحدتها وترابطها، ورفضوا الحديث عن الدية التي تم حسمها بنفس طريقة التي تمت في الليلة السابقة دون زيادة أو نقصان، وبعد أن تم القبول بكافة الشروط التي طلبوها أتت لغة التسامح والعفو؛ لتعلو على كل الأصوات بعتق رقبة علي أحمد آل مسد الجليحي من حد السيف.
الصورة درامية للغاية ومربكة للغاية، وخلال أربع وعشرين ساعة تم العفو عن رقبتين دون التوقف عند تفاصيل الزمن التي أنهكت كل الأطراف، وسكبت الكثير من الزيت على النار، ونثرت الملح على الجروح حتى أتت لغة العفو والتسامح والصفح الذي فاز به عقلاء هذه القبيلة؛ وخاصة أصحاب الدم الذين تنازلوا لوجه الله في لحظة عظيمة فنالوا العزة والرّفعةً عند الله وعند الناس.
العفو والصفح يحافظان على وحدة المجتمع ولحمة الأسرة السعودية، وقبيلة آل جليحة قدمت نموذجًا رائعًا تفضيلًا لما يبقى ويدوم على ما يفنى ويزول، هذه القبيلة التي كانت وستكون قمة وقدوة لبقية القبائل هزمت الذين يهايطون ويجاهرون بالملايين التي ما أنزل الله بها من سلطان بقي أن أشير ومن خلال معايشتي للحدث لحظة بلحظة أن رجال الأمن قدموا جهودًا كبيرة، وساهموا في ضبط الوضع على مدى يومين متتاليين ولا أنسى أن أرسل رسالة ضمنية ففي ذمة المجتمع السعي لتوفير حياة كريمة لتسعة عاطلين أيتام في الأسرة الأولى واثنين عاطلين في الأسرة الثانية بالبحث لهم عن بصيص ضوء فرصة عمل لعلهم يعيشون حياة كريمة سوية، تجنبهم وعورة نفق الضياع الذي يربك بناء المجتمع الأمن ووضع حاجز دفاع مجتمعي لهم ولنا من القنبلة الاجتماعية الموقوتة….. اللهم إني بلغت.