امتدادًا لدورها الريادي في خدمة الإسلام والمسلمين، وعمارة الحرمين الشريفين وخدمة قاصديهما، هناك أعمال جليلة تقوم بها المملكة العربية السعودية، في هذا الشأن، وربما لم يعلم الكثير عنها، ولعلي أشرت في المقال السابق “حتى تصبح السعودية في قلب العالم” إلى مقولة ندرسها في الإعلام ” إذا فعلت خيرًا فأظهره للناس”!! .
ففي هذه الأيام تعقد في رحاب مكة المكرمة ندوة سنوية عمرها خمسة عقود، وهي ندوة الحج الكبرى التي بدأت غير منتظمة في عام 1390هـ، ثم استمرت بشكل سنوي منذ العام 1397 وهي أحد مقاصد الحج “ليشهدوا منافع لهم” فالمتتبع لمسيرة هذه الندوة، والموضوعات التي تناولتها، والأوراق التي قدمت فيها، وورش العمل المصاحبة لها، يلمس تغطيتها لجميع شؤون الحياة التي تهم المسلمين أفرادًا، وجماعات،ودول، بمشاركة نخبة من علماء ومفكري ومثقفي العالم الإسلامي، بأبحاثهم ومناقشاتهم التي تركز على ملامسة مفهوم الحج بصفته تجمعًًا دينيًا وعلميًا يتم عبره التعارف والتواصل الديني والمعرفي بين المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها.
وبجهود تذكر وتشكر تحرص وزارة الحج والعمرة على عقد هذه الندوة في كل عام، وفي ذات التوقيت في رمزية لوحدة المسلمين، وبهدف تأصيل القضايا الفقهية المعاصرة، وبيان عالمية الرسالة الإسلامية، وأن الإسلام دين التسامح والسلام، ومن هذا المنطلق سوف تناقش هذه الندوة هذا العام قضية معاصرة، وفي غاية الأهمية، يحسب للوزارة والقائمين عليها، طرحها على بساط الندوة للتحاور بشأنها تحت عنوان “الإسلام : تعايش وتسامح“ فالإسلام رحمة للعالمين، وليس لأهله، لكن الأقربون أولى بالتسامح والتصالح، ونبذ الخلافات التي تفرق ولا تجمع.
فالإسلام منذ ظهوره تأسس على مكارم الأخلاق، ورفض التطرف والإرهاب ، ودعاء للتسامح، بل إنه أتى لنصرة المظلوم والإحسان للضعيف، فهو دين الوسطية والاعتدال والسماحة والحياة كما يقول ربنا في القرآن الكريم عن النفس البشرية (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) وعندما سمع بريما كوف، رئيس وزراء روسيا الأسبق هذه الآية الكريمة قال إن هذا الدين العظيم يأمر بالحفاظ على النفس البشرية، لكن الإعلام المعادي للمسلمين صور دينهم للعالم بعكس حقيقته.
كما أن التراث الإسلامي بحاجة إلى مراجعة شاملة، وتنقيته مما ألحق فيه وزيد عليه، إما لجهل، وإما لهوى، ونحن في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها المنطقة، بحاجة ماسة إلى تفعيل ثقافة الاختلاف وتقبل الآخر، والتسامح، والقبول بالتعددية، وعدم أطر المجتمع الإسلامي على رأي واحد، فالإسلام دين الرحمة، والاتفاق على الأصول هو الأهم، ويبقى الخلاف على الفروع التي تستوعبها مدارس الفقه المتنوعة،ولننظر في قول ربنا (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فالاختلاف هنا اختلاف التنوع وهو المحمود، وليس اختلاف التضاد والعداء، فأمامنا فرصة عظيم أن نجعل من تنوعنا مصدر قوة لا نقطة ضعف، فالهند مثلًا تضم مئات الملل والنحل، ولم يمنعها ذلك من التعايش فيما بينها.
ومن خلال ندوة الحج الكبرى نستطيع تقديم الصورة الحقيقية للمجتمعات الإسلامية، لتتعايش، وتتقبل بعضها، وتؤمن بأن الجميع على صواب، قبل أن نطلب من الآخرين احترامنا، واحترام ديننا وقيمنا، فترسيخ مبدأ الحوار الفكري الواعي لقضايا أمتنا الإسلامية من خلال موسم الحج، موسم الخيرات المتعددة، والتواصل العلمي بين علماء الأمة ومفكريها، يساهم في تحقيق المزيد من الانسجام و التكامل والتآخي والتعارف بين أبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق فوائد مشتركة عبر إرساء قواعد العمل الجماعي الموحد لأبناء العالم الإسلامي في الرد على الشبهات التي تحوم حول العقيدة والأمة والثقافة الإسلامية، ومن ثم تقديم أنفسنا للآخرين بصورة مغايرة لما قدمه الإعلام العالمي بمساهمة منا، وأن تكون مخرجات ندوة هذا العام امتدادًا وتطبيقًا لندوة الحج في دورتها الثانية والأربعين “الحج منبر السلام. .من بلد الله الحرام“ وأن نرى ونلمس مخرجات هذه الندوة في مناهج الدول الإسلامية ومنابرها الدعوية والإعلامية والأسرية.