كان الإمام محمد عبده يعقد مجلسه في الجامع الأزهر لقراءة علم الكلام ، فازدحم عليه لشهرته الألوف، وضاق الرواق العباسي، بالطالبين، فتربص به أعداء النجاح و أعداء العقل! وفي يوم كان الأستاذ يشرح لحاضري مجلسه أن طريقتهم التي هم عليها في تحصيل العلم عقيمة، وأن دعواهم أنها تشحذ الأذهان وترهف حد الفكر فيقوى على الفهم غير مُسَلَّمة بالنسبة لمسائل العلم. وأن قوة الذهن في إيراد الاحتمالات والمحاورة في أساليب الكتب غير مفيدة، بل هي مضيعة للعلم نفسه، ولذلك لا نكاد نرى محصلاً لثمرة الفنون العربية، وهي فهم الكلام العربي الفصيح والإتيان بمثله، ولا لثمرة العلوم العقلية، وهي الاقتدار على الاستدلال الصحيح، وإنما قصارى ما عند القوم: حكاية ألفاظ الكتب التي بين أيديهم، وفي تحدٍ لطلابه قال الأستاذ: وإنني أعطي مائة جنيه لمن يفسر لي منكم آية من القرآن الكريم، أو يقرر لي مبحثاً من مباحث المنطق على فهم تام، أو يقيم لي برهانًا عقليًّا على وحدانية الله تعالى، يثبت مقدماته ويدفع عنها الشبه التي ترد عليها قبل أن يسمع ذلك مني ؟
فحرَّف أعداء العقل الكلم عن مواضعه، وأشاعوا أن الأستاذ ينكر الوحدانية، حيث ينكر إمكان إقامة الدليل عليها، فقال جماعة: إنه أنكر الوحدانية، وآخرون قالوا: إنه أنكر الوجود.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا : ما أسرع سريان الباطل، في الشعب الجاهل! لم يمضِ بعض أيام، حتى انتشرت الكلمة الخبيثة (إنكار الوجود أو الوحدانية) في مصر، وكادت تعم سائر أنحاء القطر، فرددها أصحاب المحفل والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي، حتى إن من يتلقفها من أفواه الناس يتوهم أنها منقولة بالتواتر! وساعد على انتشارها شهرة من نسبت له مع غرابة الخبر في نفسه وفي مكانه!
وكان كل حاضرـ ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا ـ في ذلك المجلس يعلم أن غرض الأستاذ أن يقرر لطلاب العلم تقصيرهم، ليستنهض بذلك همتهم، ويثير حميتهم لتكميل أنفسهم بسلوك الطريقة المثْلَى لتحصيل العلم.
يقول رشيد رضا لو كان لهؤلاء الغوغاء عقل يرجعون إليه، أو علم بالدين يحكّمونه في القول، لعلموا أنه لا يمكن لعاقل أن يصرح بعقيدته الفاسدة على ملأ من الناس في أشهر المساجد ومدارس العلم الديني، وأنه لو فرض أنه قال: لا يمكن إقامة برهان عقلي على وحدانية الله تعالى، فلا يقتضي ذلك إنكاره الوحدانية، لجواز اكتفائه بالدليل الشرعي، ولأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أن الأستاذ المتجرَّمَ عليهغ قد أقام على الوحدانية أقوى البراهين العقلية في رسالته التي يقرؤها في الأزهر، وهي بين الأيدي، ونسخها تعد بالألوف، وقد قرر في الدرس ذلك البرهان وأوضحه بأجلى بيان.
و في مجلة المنار كتب الشيخ محمد رشيد رضا تحت عنوان “بهتان عظيم “: لما لم يجدوا مجالاً للطعن، ولا مساغاً للقدح، لجئوا إلى الانتحال والاختلاق، وصمموا على الإفك والبهتان، وألقوا في مسامع العامة أن الأستاذ أنكر وجود الله تعالى أو وحدانيته ، ونفثوا في روع الذين يدعون بالخاصة أن الشيخ قال: إنه يستغنى بلفظ (الرحمن) عن لفظ (الرحيم) ، وإن ذلك كان في الجامع الأزهر على رءوس الأشهاد!!
ويضيف الشيخ محمد رشيد رضا : إن الأستاذ بيَّن وجه إثبات (الرحيم) مع (الرحمن) بما هو أقوى من المشهور في الكتب المتداولة بين أهل العلم فقال ما مثاله: أن صيغة (فعلان) تدل في اللغة على الصفات العارضة، كعطشان و غضبان، وصيغة (فعيل) تدل على الصفات الثابتة.
الراسخة، كعليم وحكيم ورحيم. وكلام القرآن جاء بالأسلوب العربي، حتى في الحكاية عن صفات الله تعالى التي تتنزه عن مشابهة صفات المخلوقين من العروض والزوال، ومن مقتضى الأسلوب العربي عدم الاستغناء في مقام المدح بالصيغة التي تدل على الوصف العارض، عن الصيغة التي تنبئ عن النعت الثابت، وإن كان في الأولى زيادة في المبنى، تدل على زيادة في معنى الصفة .
الشاهد :
أعداء العقل في كل زمان ومكان و الشائعات سلاح خطير وقديم ومجرب لنشر الأكاذيب والبهتان والإفك خاصة في عصرنا وأن الجرأة على العلماء والتجني عليهم غالبا ما يصدر ممن ينتسبون زورا وبهتانا للعلم وسوقهم الرائج هم الجهلة والغوغائيون !!