المقالات

قطر.. إيران..وثالثهم الشيطان

تؤكد لنا الأيام أن ذاكرة الشعوب العربية مصابة (بالزهايمر) ومثقوبة أيضًا؛ لذا لابد من التذكير بالتاريخ لعل وعسى من يعي الحقيقة قبل أن يقال: كان العرب يعيشون هنا.
يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
عندما اندلعت (الثورة الخمينية) في نهاية السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، رأى وسمع العالم الإسلامي خلال أشهر الحج من أنواع الرفث والفسوق في مكة (تحديدًا) ما لم يسمعه من قبل، جموع كموج هادر تنطلق بتخطيط وبتنظيم مرددين شعارات منها (تسقط أمريكا والموت لإسرائيل)!
وقبل ذلك في يونيو 1963م، قال كبيرهم الذي علمهم الشعارات “كيف يمكننا أن نتسامح مع وصمة العار المتمثلة في تحويل بلدنا الإسلامي إلى قاعدة لإسرائيل والصهيونية؟”، هذا ما كان يردده على المنابر الإعلامية زعيمهم آية الله الخميني.
هكذا كانت البداية، ظاهر القول شعارات نارية والمخبر يختلف عن المظهر!
علاقة (شاه) إيران وإسرائيل كانت على ما يرام وبينهما تعاون في عدة مجالات ومن ضمنها العسكري، وبعد سقوط حكمه واستيلاء الخميني على السلطة، توقع الكثير من المراقبين نهاية العلاقة السياسية والعسكرية الوثيقة بين (إيران الشاه) وإسرائيل؛ خاصة بعدما عبر النظام الإيراني الجديد عن هويته (الإسلامية) ودعمه لنضال وكفاح الشعب الفلسطيني، ومن فوره بادر عرفات بزيارة طهران كأول مسؤول عربي يصل إليها بعد سقوط الشاه. وخلال تلك الفترة أغلق (نظام الخميني) المبنى الجديد للسفارة الإسرائيلية في طهران بقصد تحويله إلى مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية! لم يدم شهر العسل طويلًا بين المنظمة و(نظام الخميني)؛ حيث حاول النظام زرع مجموعة من (الناشطين الإسلاميين) داخل منظمة التحرير الفلسطينية ليكونوا بدلاء عن القادة المعروفين آنذاك، مما ساهم في توتر العلاقة بين الطرفين وأدى ذلك لاحقًا إلى إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في (الأحواز) جنوب غرب إيران، بتهمة التجسس والتدخل في الشؤون الداخلية للحكومة الإيرانية الجديدة.
الانهيار النهائي للعلاقة بين (إيران الخميني) ومنظمة التحرير الفلسطينية، جاء بالتزامن مع نشوب حرب الخليج الأولى، والتي وجد الجيش الإيراني نفسه عاجزًا عن صد الجيش العراقي ومبادلته الهجوم بسبب نقص قطع الغيار والأسلحة. ورغم العلاقات الدولية (لإيران الشاه) فإن (معظم) المجتمع الدولي وفي مقدمته (أمريكا) لم يساعد (إيران الخميني) في حربه ضد العراق لهذا كان الخطاب الإيراني مليئًا بالكراهية لأمريكا وإسرائيل.
لكن هل كان الواقع كذلك؟
بالعكس تمامًا، إيران عقدت الكثير من الاتفاقيات السرية مع الكيان المحتل الذي خالف المجتمع الدولي (المساند للعراق آنذاك)، وقام بتزويد الجيش الإيراني بالأسلحة وبواسطتها استطاعت تغيير ميزان الحرب لمصلحة إيران! ولم يكن هذا هو التعاون الأول بين إيران والكيان المحتل، فقد لعبت إيران دورًا هامًا في نجاح مهمة تفجير المفاعل النووي العراقي من خلال الصور والمعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها سواء من عملاء إيران في الداخل العراقي أو الطائرات الإيرانية التي سبق وأن ضربت المفاعل قبل ذلك، ووصل التنسيق أقصاه بين إيران والكيان المحتل خلال (إدارة ريجان) بعدما سمحت الإدارة الأمريكية ببيع الأسلحة (سرًا) لإيران عبر إسرائيل للمساعدة في تمويل ثوار نيكاراغوا، فيما عرف لاحقًا بفضيحة (إيران غيت)، وحينها صرح السفير الإسرائيلي آنذاك لدى الولايات المتحدة، موشيه آرينس، “بأن شحنات الأسلحة الإسرائيلية إلى إيران تتم بالتنسيق مع أعلى مستوى من الحكومة الأمريكية”!!.
التعاون بين إيران والكيان المحتل لم يقتصر على الأسلحة فقط، بل شمل أيضًا التنسيق وإنهاء عمليات التفاوض لإطلاق الرهائن الأمريكيين الذين احتجزتهم الميلشيات الإيرانية في لبنان. ونشرت المعارضة الإيرانية (لنظام الخميني) عدة تقارير من الصحافة الإسرائيلية بما يثبت  “أن التعاون الإسرائيلي مع نظام الخميني يشبه التعاون مع إيران الشاه، وأن إسرائيل دربت الحرس الثوري الإيراني المكلف بالقمع الداخلي للشعب الإيراني وأيضًا دربت أعضاء حزب الله في لبنان”.
وبالرغم من (كل) الأمثلة أعلاه، إلا أن عملاء إيران لم يتوقفوا خلال مواسم الحج من ترديد (تسقط أمريكا والموت لإسرائيل).
 هذه الازدواجية وحالة الانفصام في التعامل مع أمريكا والكيان المحتل تعلمتهما قطر من إيران، بل وتفوقت عليها مستترة خلف ذراعها الإعلامي قناة الجزيرة التي أتاحت منبرًا للنقاش بلا قيود لم يكن موجودًا في العالم العربي من قبل، لكنها (أي الجزيرة) لم تفعل ذلك حبًا ودعمًا لحرية العرب، بل لأهداف مبطنة كانت ترسلها القناة على فترات متفاوتة لتحقيق أهداف إستراتيجية ضد الأمة العربية.
لأكثر من عقدين من الزمن، وبعد انقلاب الابن على أبيه، لم تتوقف الجزيرة عن انتقاد السياسة الأمريكية وانحيازها للكيان العدو المحتل المغتصب، وأنها (أي أمريكا) هي السبب الرئيسي في مشكلات الشرق الأوسط، والجزيرة على شاشتها أظهرت ضيوفا أقضَّوا مضاجع أمريكا والعدو المحتل بكلماتهم النارية وخطبهم الرنانة وألسنتهم الحداد. أسلوب لم يعهده العرب في طرحهم الإعلامي (السياسي تحديدًا) ومن قناة (ظاهرها خليجي) لا تبث من أوروبا أو الأمريكتين بل من الإمارة الخليجية قطر!.
بعد أحداث سبتمبر(9/11)، وفي الوقت الذي كان العالم مذهولًا من جرأة (القاعدة) وتطاولها على أمريكا، كانت أشرطة (بن لادن) تجد طريقها على شاشة قطر (الجزيرة) دون غيرها من قنوات العالم، شريط تلو الآخر وساعات من البث لزعيم تنظيم القاعدة ونائبه الظواهري ثم لاحقًا الزرقاوي بعدهما (في تحدٍ صارخ للقوة العظمى)، بل الطامة الأكبر حينما حدد رجال FBI موقع (مزرعة قطرية) يختفي فيها (خالد شيخ محمد) الذي قيل بأنه المخطط الرئيسي لأحداث سبتمبر، وعندما وصلوا من أمريكا للقبض عليه فوجئوا بخروجه منها بسهولة!، ولم تكتفِ قطر في تحديها لأمريكا خلال فترة (القاعدة)، فبعدما أعلنت الدولة الكبرى وعقدت التحالفات الدولية لمحاربة ما يسمى (داعش)، فوجئ العالم بالجزيرة تبث على الهواء مباشرة مبايعة أحد ضيوفها للخليفة البغدادي!
في مقابل تلك الضربات والبطولات (الإعلامية) لقطر ضد أمريكا، لم تقدم قناة الجزيرة وهي (الباحثة عن الحقيقة، والتي تناهض الاستبداد والاستعلاء الأمريكي في الشرق الأوسط) حلقة واحدة تناقش أسباب وجود وتطوير وتوسعة القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر المجد وبأموال قطرية!!!
أما العداء وكراهية قطر للكيان المحتل، فهذا فصل آخر يكتب بالذهب على رفض الإمارة الخليجية للصلف الصهيوني.
ففي الوقت الذي ترفض فيه معظم الدول العربية التعاون مع حركات تدَّعي مقاومة الكيان الصهيوني مثل: حماس والإخوان المسلمين، نجد قطر تفتح أذرعها لهم بالأحضان، وتقدم لهم الدعم الوجودي والمالي والإعلامي، ولم تكتفِ بالجانب السني فقط، بل كشفت إحدى الصحف البريطانية عن رسائل إلكترونية من كبار المسؤولين في الحكومة القطرية إلى أعضاء قياديين في جماعة حزب الله وكبار القادة في الحرس الثوري الإيراني!، ومع كل عدوان على الشعب الفلسطيني الأعزل، نجد خطاب قطر مختلفًا عن الآخرين فهو الأكثر حدة ولا يتردد في وصف العدوان بالمذبحة والتنديد بالقتل الممنهج والمنظم لإبادة الشعب الفلسطيني دون تمييز بين الأطفال والنساء، وأمام هذه المواقف كيف لا يكون (لقناة الجزيرة) شعبية لدي البسطاء الذين تقدم لهم مسلسلات البرامج الحوارية الصاخبة والتقارير الإخبارية النارية مع دس السم في العسل لهم؟ كيف لا يكون  (لقطر العظمى) مكان الصدر في مجلس الأمة العربية؟
لكننا أيضًا نقف حائرين (كحيرتنا مع سلوك طهران)، هذا العداء المعلن والنقد اللاذع من الجزيرة، كيف نفسره ونحن نرى القناة تحظى بمميزات إعلامية وتسهيلات من الكيان المحتل الذي لم يفكر للحظة بإغلاق مكتب القناة هناك؟ ماذا عن علاقات التطبيع بين قطر والكيان المحتل على الأصعدة السياسية والرياضية والإعلامية، وهناك أيضًا العلاقات السياحية المستمرة، ألا يحق لنا أن نتساءل لم تحرص إسرائيل على روابطها مع قطر؟ أليس هذا التقارب خدعة جديدة للعرب لتمزيق ما بقي من روابط بينهم؟ كيف تطور إسرائيل علاقتها مع قطر وتتغاضى عن دعمهم لحماس؟ أو ليست حماس هي من تطلق عليهم الصواريخ (عند الحاجة)؟ ألا يزيد هذا الدعم من توسيع رقعة الخلاف بين فتح وحماس؟ ألا يتسبب هذا الخلاف (الفلسطيني – الفلسطيني) في تأخير ملف الاتفاقيات مع الكيان المحتل ومطالبته بالانسحاب، فمن المستفيد النهائي إذن؟
ويبدو أن الازدواجية السياسية صارت جزءًا من سلوك حكومة قطر، فها هم يشتكون لطوب الأرض ويتهمون الحكومة السعودية بتسييس الحج، ووضع العراقيل أمام الشعب القطري لمنعه من أداء فريضة الحج وأطلقوا وسم (لم نستطع إليه سبيلًا) على وسائل التواصل لتعريف العالم الإسلامي بمعاناتهم! وقد انطلت الكذبة على البعض، وضحك البعض الآخر منها؛ لأنهم يعرفون أن البعثات القطرية الرياضية تصل بشكل مستمر إلى السعودية للمشاركة في الفعاليات الرياضية، ثم يتجه المسلمون منهم ليؤدوا شعائر العمرة نحو الحرم المكي الشريف فكيف استطاعوا الآن إليه سبيلًا؟.  
أحلام:
هناك استراتيجيات مؤقتة يجب تحقيقها أولًا تمهيدًا للوصول إلى الحلم الاستراتيجي الكبير.
دويلة تسعى لتحقيق حلمها بحدود أكبر على حساب جارتها الكبرى، إمبراطورية بادت وتحلم بالثأر والسيطرة على الحرمين، أبناء التيه يحلمون بكيان حددته لهم خريطتهم الكبرى.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button