جبل أحد جبل يحبنا ونحبه . وفوق قمته قبة تشتهر منسوبة لقبر سيدنا هارون بن عمران عليه السلام ، فى هذه الايام كثر الجدال ، وتنوع المقال ، وانتشرت إفادات عدد من المتكلمين عن تاريخ المدينة المنورة في حقيقة قبة هارون عليه السلام بجبل أحد . فمن متكلم برواية قصص مختلقة ، ومن متحدث عن أفكار لا تمت لصلب الحقيقة بصلة . فمن قائل : إن المبنى المعروف بقبة (هارون) في قمة جبل أحد ليس لها علاقة بقبر نبى الله هارون على الاطلاق ورجح أن يكون موقعا للمراقبة العسكرية إبان الحكم العثماني وربط هذا القائل اشتهارها بقبة هارون بأنها نسبة لرئيس الفرقه العسكرية المكونة من ثلاثة أشخاص إسمه هارون . ومن السخف أن قال بعضهم : إن هارون كان رجلا زاهدا اختار هذه القبه خلوة للعبادة . بينما قال : إنه عسكرى ينتمى للجيش العثمانى كان يحرس المدينة من فوق جبل أحد من ذلك البرج . وقال : إن ذلك العهد تميز بقصص الهاربين من صخب الحياه العامة للعزلة والعبادة . وقام آخر : فأنكر رواية الامام عمر ابن شبه تماما وما جاء فى خبر قبر سيدنا هارون عليه السلام بجبل أحد . وقال آخر : إن الحارس هارون بقى فوق جبل أحد في هذه القبة ثلاثين عاما حتى اشتهرت القبة منسوبة اليه . والى غير ذلك من الأقاويل المبعثرة التى لا تمت للحقيقة بصلة .
ولا أدرى كيف ينسجم القول : بأن هارون كان رجلا عسكريا من الجيش العثمانى مكلفا بمهمة عسكرية خاصة في ذلك البرج على رأس فرقة من الحرس لمراقبة المدينة . ثم القول : بأنه كان رجلا ناسكا هرب الى ذلك المكان من صخب الحياة ليعيش حياة العزلة والعبادة ؟
وعموما للمشاركة في تبيان الحقيقة ، وإيضاح الطريقة ، وددت البحث في هذا الأثر ، لعلى أن أجد ما يجلى هذا الخبر . فرجعت لما رواه الامام عمر بن شبة المدنى في تاريخه مرفوعا ، قال : أخبرني عبد العزيز الدراوردي ، عن رجل من الأنصار ، عن عبد الملك بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : خرج موسى وهارون حاجين أو معتمرين حتى إذا قدما المدينة خافا اليهود ، فنزلا أحدا وهارون مريض ، فحفر له موسى قبرا بأحد ، وقال : يا أخي ادخل فيه ، فإنك ميت . فدخل فيه فلما دخل قبضه الله ، فحثا موسى عليه التراب (1)..
ورأيت الامام ابن حجر العسقلانى في فتح البارى : ذكر هذا الحديث بنصه وعزاه للحافظ الامام أبو القاسم السهيلى ، وقال : ونقل السهيلي عن الزبير بن بكار في فضل المدينة أن قبر هارون عليه السلام بأحد ، وأنه قدم مع موسى في جماعة من بني إسرائيل حجاجا ، فمات هناك . ثم قال : وسند الزبير بن بكار في ذلك ضعيف جدا من جهة شيخه محمد بن الحسن بن زبالة ، ومنقطع أيضا وليس بمرفوع (2).
ووجدت الامام الحافظ محب الدين ابن النجار في تاريخه الدرة الثمينة يرويه أيضا بلفظ مختلف ، وسند مختلف ، فقال : وكتب إلي أبو محمد بن أبي القاسم الحافظ أن عبد الرحمن بن أبي الحسن أخبره ، قال : أنبأنا سهل بن بشر ، قال : أنبأنا أبو الحسن بن منير ، قال : أنبأنا أبو طاهر محمد بن عبد الله الدهلي ، قال : حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن طلحة ابن خراش بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرج موسى وهارون عليهما السلام حاجين أو معتمرين ، فلما كانا بالمدينة مرض هارون فثقل ، فخاف عليه موسى اليهود ، فدخل به أحداً ، فمات ، فدفنه فيه (1).
وقال الامام بدر الدين العينى في عمدته رواية عن الامام السهيلي : وفي أحد قبر هارون عليه السلام أخي موسى الكليم وفيه قبض ، وثمة واراه موسى عليه السلام ، وكانا قد مرا بأحد حاجين أو معتمرين (2).
وقال الامام السمهودى إمام مؤرخى المدينة في القرن التاسع للهجرة في تاريخه خلاصة الوفا : ولأبن شبة بسند لا بأس به إلا أن فيه من لم يسم عن جابر مرفوعا : أقبل موسى وهارون حاجين فمرا بالمدينة فخافا من يهود ، فخرجا مستخفين فنزلا أحدا ، فغشى هارون الموت ، فقام موسى فحفر له ولحد ، ثم قال يا أخي إنك تموت ، فقام هارون فدخل في لحده فقبض ، فحثا عليه موسى التراب ، وهو دال على كون اليهود بالمدينة زمن موسى إنتهى (3).
والجدير بالذكر أن سند الامام الحافظ محب الدين بن النجار في هذا الحديث : ليس فيه منقطع ولا مجهول كما في سند ابن شبة ، ولا فيه محمد ابن زبالة كما في سند الزبير بن بكار . وهذه الروايات الثلاث وردت بطرق مختلفة ، تؤكد كلها على كون قبر سيدنا هارون بن عمران عليه السلام بجبل أحد بالمدينة المنورة صراحة . فالرواية الاولى عن طريق الامام عمر ابن شبة في تاريخه مرفوعا بسند لا بأس به كما قرره الامام السمهودى في تاريخه خلاصة الوفا . والرواية الثانية عن الحافظ المحدث الامام محب الدين ابن النجار بسند ليس عليه كلام . والرواية الثالثة عن الزبير بن بكار عن طريق محمد بن زبالة المخزومى كما قاله الامام ابن حجر العسقلانى في فتح البارى وقد سبق . وهذا كله يؤكد أن الخبر لم ينفرد بروايته الامام ابن شبة لوحده ، ولا الامام ابن زبالة لوحده ، مما يعنى أن الرواية لها قرائن وشواهد . ومع ذلك لم يتعرض أحد من علماء المدينة المنورة لهذا الخبر كالامام محب الدين محمد بن النجار ، ولا الامام محمد المطرى ، ولا الامام زين الدين المراغى وغيرهم بنفي او تأكيد كما وقفت عليه مع روايتهم للحديث في كتبهم ، إلا ما كان من الامام نور الدين على السمهودى كما سيأتى .
يتبع
بحث موفق .
يبدو أن ثقافة دفن الأموات – قديما – في الجبال امر شائع . فثمة قبر اعلى جبل الجماوات ؛ و كذلك في الجبال كما يحكى في العلا و غيرها .
لذلك واستنادا للآثار الواردة و الواقع المشاهد فيمكن قبول وجود قبر هارون عليه السلام أعلى جبل أحد .