يوافق هذه الأيام الأول من الميزان، احتفاء المملكة العربية السعودية بمرور “89” عاماً على توحيد هذا البناء العظيم على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –رحمه الله-، وإنها لمناسبة غالية يجب أن تكون فرصة لتجديد مشاعر الانتماء والولاء، وفرصة ننتهزها لتأصيل الانتماء والمواطنة في أبناءنا، ولنتتبع منجزات البلاد العظيمة وهي بحق معظمة في قلب كل مسلم، وما تشهده اليوم من تطور وتقدم في كافة المستويات ومختلف الأصعدة، وأيضاً هي فرصة لنستدعي فيها تاريخ بطولات الملوك والأمراء والآباء والأجداد ومن سار في ركبهم، في جمع شتات الجزيرة العربية وتوحيدها تحت لواء العز راية التوحيد حامل لواءها الملك المؤسس –رحمه الله- وإظهارها بمظهر يليق بمنجزاتها وما تحقق على يدي أبطالها، وعلينا كذلك استشعار نعمة الأمن والأمان ووحدة الكلمة والالتفاف حول علماءنا في نصرة قادتنا وبلادنا. إن من أهم المصالح التي قررتها الشريعة الإسلامية المحافظة على الأوطان وحسم كل ما من شأنه أن يضعف قوتها أو يذهب شوكتها. وليس هناك أصلح من أن نتمسك بوحدتنا الوطنية ونشد عليها ونحميها بقطع يد كل عابث يعبث بها، فهي ركيزة من ركائز مقومات الوطن وأساساً من أسس تطوره وتقدمه وهي نتيجة تلاحم الشعب مع قيادته، كما أنها الأساس في استقرار الوطن ونمائه، يقوم عليها البناء الوطني السليم وتشكل هدف التنمية السياسية وغايتها الأولى، وهي تمثل بحق أهم الثوابت الوطنية وأكثرها إلحاحاً وحيوية؛ فحتى يتحقق معنى الوحدة والاعتصام وعدم التفرق والتحزب بنى الإسلام اجتماع الناس على مراعاة الحاجة إلى إمام يسوس الجماعة بعد مبايعته وتفويض الأمر إليه، ولذلك استعمل الرسول (صلى الله عليه وسلم) معنى “مفارقة الجماعة” في الحديث الذي رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) للنص على أن:(من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات؛ مات ميتةً جاهلية) “جاهلية”: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم. -شرح النووي على صحيح مسلم (رحمهما الله)- 238/12. في وقت مضى وأفل –ولله الحمد- جاء من يُلبِّس على الناس أن مفهوم الوطن والانتماء من المفاهيم التي يرفضها ديننا الحنيف، وأن الدعوة إلى الاحتفاء بالوطن وبرجالاته والاعتزاز بهم وبانتصاراتهم وبالانتماء إلى الوطن؛ إنما هي دعوة لعصبية أو إقليمية، أو هي دعوة لإحداث شرخ في جسم الأمة، فيظن ظان أن الانتماء للوطن مما يتناقض مع الانتماء للأمة الواحدة. غير أن الفاحص في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وسير سلف هذه الأمة الصالح؛ لتبين بما لا يدع مجال للشك أصالة المبدأ، ومدى اعتباره ومراعاته عند التشريع واستنباط الأحكام لأفعال الخلق. وعليه فليس في هذا ما يتصادم مع أصول التشريع وفروعه، بل المواطنة بهذا المعنى من صُلب الدين، فهي التزام يفرضه على الفرد تجاه وطنه الذي يعيش فيه، وهي انتماء إلى الأمة الواحدة بمفهومها الأعم.فلا تعدو المواطنة عن كونها آتية من فطرة الإنسان التي فطر عليها وجبلته التي جبل عليها؛ لهذا نجد أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول لورقة بن نوفل: “أوَ مُخرجَّي هُم؟” تألماً وتفجعاً مما أنبأه به من تصرف قومه معه، وفعلاً حدث الأمر وأخرجه قومه، ويومها مخاطباً مكة بكل حرارة وأسى ” والله إنك خير أرض الله، وأحب أرض الله إليّْ، لولا أني أُخرجت منكِ ما خرجت” صححه الألباني(رحمه الله): 2/196. قال ابن حجر(رحمه الله) مُعلقاً: “قال السهلي (يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس)..” 12/376. وفي قول الله تعالى:( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ..) النساء-66، امتحنهم الله بأعظم تضحيتين: قتل النفس، والإخراج من الديار ابتغاء مرضاة الله. يقول الشيخ السعدي(رحمه الله) مفسراً: “يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس، من قتل النفوس، والخروج من الديار، لم يفعله إلا القليل منهم..” تيسير الكريم الرحمن/166. وفي قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) البقرة- 84، جعل قتل النفس بغير حق قَسيماً للإخراج من الديار. وجاء في تفسير (الفتنة) عند ابن حبان(رحمه الله) في قوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ..) البقرة- 191، أنها إخراج المؤمنين من ديارهم. -البحر المحيط في التفسير-2/244.فمن خلال هذه النصوص الكريمة أوضح دليل على أن انتماء الإنسان لوطنه وأرضه وتعلقه بها وشغفه بحبها، مفهوم لا يخرج عن تعاليم الشريعة وليس بغريب عنها، فانتماء الإنسان لوطنه من صلب دينه الذي يعتنقه ويعتقده، وحب الوطن فطرة جبل عليها الخلق، فمن أراد دعوة الناس إلى غير ذلك؛ فعليه أن يغير فطرة البشر أولاً.
0