المقالات

فلسفةُ الضَّوء

(ف-نار)
بينَ انكسار الضَّوء وشُعاعِهِ المستقيم نقطةٌ تتناهى في الصِّغَرِ، ولولاها لما استطاع أن ينفذ داخلَ كثيرٍ من الأجسام السَّائلة والصُّلبة، فماذا يعني ذلك؟
إنَّ الانكسارَ في فهمِ البشرِ رمزٌ للضّعف، ودليلٌ على قلّةِ الحيلة وتَرْكِ الطَّرفِ الآخر يتحكّمُ في مصيرك، فيُخْضِعُك لرغباته، ويستعملك للوصول إلى أهدافه، أمّا الضّوءُ فحينَ يُصادِفُ في طريقه جسماً أصلبَ منه فإنّهُ يعتمدُ على قانون الانكسار لكي يستطيعَ النَّفاذَ إلى قلب ذلك الجسم، فيكشفه، ويفضح مضمونَهُ، ثمّ يخرج منه مُنتشياً بنصره، وفيهِ مِنَ اللُّطفِ معَ هذا السُّلوكِ الّذي يُمكِنُ وصفُهُ بالفظاظة ما يجعلُ استمرارَ بقاءِ المخلوقات كُلِّها مِن دُونِهِ مستحيلاً.
في الضَّوءِ تجتمعُ جُلُّ المُتناقضات، فهو القويُّ اللَّيِّنُ، والقاسي اللَّطيفُ، وهو المُبهِجُ، لكنّهُ يبعثُ الحُزنَ في بعض الأحوال. إنِ اقتربتَ منهُ أحرقَكَ، وإن ابتعدتَ عنهُ قتلَكَ شوقُكَ إليه، لذلكَ عليكَ أن تُبقِيَ مسافةً بينَكَ وبينَهُ.
الضَّوءُ أبرعُ مخلوقٍ في هذا الكونِ المملوءِ بالعجائب والأسرار، فإنْ عرفنا نقطةَ بدايتِهِ استحالَ علينا تحديدُ مُنتهاهُ ووقت توقُّفِه إنْ كان سيتوقّف. ولمّا نجحَ الإنسانُ في تحديد مسارِهِ لم ينجحْ في إيقافِ تَقدُّمِهِ، لأنّهُ في حركةٍ مستمرّةٍ ونشاطٍ لا يُماثِلُهُما شيءٌ.
أمّا أثرُهُ في النُّفوس وفي أمزجةِ الكائنات الحيّة فليسَ خافياً على النّاسِ عامّتهم وخاصّتهم، فالاسْتِزَادَةُ منهُ تبعثُ الهمّةَ والنَّشاط، وهو دليلٌ على الفرح حتّى إنّ النّاسَ يعتمدونَهُ أهمَّ علامةٍ في أفراحِهم ومَباهِجِهم، وأمّا التَّقليلُ منهُ فإنّهُ دليلٌ على السُّكونِ وانقباضِ حركةِ الأجسام غالباً، لذلكَ نرى انعدامَهُ مجلبةً للنَّوم، ومبعثاً للخُمولِ وضعفِ الهمّة.
وهو مُتحكِّمٌ شَرِسٌ في أدمغتِنا، فإنْ وُجِدَ كانَ مصدراً لطاقتِها ومبعثاً لنشاطِها، أمّا حينَ يتوارى خلفَ الأشياء فإنّها – أي الأدمغة – تتّجهُ إلى نشاطٍ وعملٍ من نوعٍ آخر، وهو في الحالتَينِ يبقى كالمُتربِّصِ بها ينتظرُ الفُرصةَ لكي ينقضَّ عليها، ويقودَها في اتِّجاهه.
إنّ الضَّوءَ يُديرُ حياتَنا قسراً، لكنّهُ بعملهِ هذا يَتسبَّبُ دائماً في إسعادِنا وتحقيقِ نجاحاتِنا وراحتِنا. وعلى الرَّغْمِ من أنّهُ والعتمة نقيضان إلّا أنّهُ يتعمّدُ الغيابَ كي يُعطيَنا وقتاً لنتأمّلَهُ، ونسبرَ أغوارَهُ وفلسفتَهُ. وفي حينِ أنّنا نتجلّلُ بالعتمةِ الضَّريرة في انتظارِهِ، تائقينَ إلى عشقِنا الأبديّ، يمكثُ هوَ منّا غيرَ بعيدٍ، كأنّهُ يخشى علينا منها، فيُبقِي من لُطفِهِ ولو شيئاً يسيراً بالقدر الّذي يَصِلُنا من إطلالةِ القمر ولمعانِ النُّجوم، أو مِن مصباحِ بيتِ أحدِهم نسيَ أن يُطفِئَهُ، أو تَعمَّدَ إضاءَتَهُ لكي يُؤنِسَ بمُشاكَسَتِهِ أصدقاءَ العتمة.
الضَّوءُ أكبرُ فيلسوفٍ، وفيهِ أعظمُ فلسفة، ومن يأمل بأن يحظَى بأيسرِ اليسيرِ مِن أسرارِهِ فلن يَكْفِيَهُ العُمُرُ كُلُّه.

Related Articles

5 Comments

  1. سلمت يمينك ..فكيف لو اكملت مدخلك الجميل الى الحديث عن النور ؟؟
    الموضوع برقة الفاظك يصبح ملحمة ❤?✅

  2. موضوع فلسفي تأملي جميل، والضوء او النور من النعم العظيمة ألتي خلقها الله سبحانه وتعالى وجعله آية في ذاته وفي أسراره،وجعله من أرقى ألصفات،فالنور في أصله ألمولى سبحانه وتعالى بمفهومه ألحسي والمعنوي وهو الهداية والصواب والحق ….
    وفقك الله وملأ قلبك وروحك وبدنك نورا

  3. مقال في غاية الروعة والجمال وهو بلا شك ضوء ممتع في عتمة مملة.. دام قلمك مبدعتنا السامقة.

  4. تعليقات القراء على ما ينضح من قلم الكاتب وفكره هي صورة للتفاعل الذي يأمله الكاتب منهم ودليل وعيهم بأن الكلمة أمانة.
    الأعزاء: رحاب، أم عبدالملك، عبدالله، بوديمة شكرا جزيلا على تفضلكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button