الإنسان هو عماد حركة التطور من قيام حضارات، وازدهار مدنيات، وتقدم مجتمعات، وحماية مكتسبات.
وبالعقل وحده لا يستطيع تحقيق ذلك إن لم يمتلك وعياً حقيقياً بذاته، وفهماً دقيقاً لأسباب وجوده، وإحاطةً بكينونة الأشياء من حوله، ومعرفةً حقيقيةً بمتطلبات الصعود وأسباب التأخر والسقوط.
وللوعي وجهان: وجه حقيقي يخط ملامحه الفرد نفسه بالبحث في ذاته وفيما يحيط به من أشياء ورموز تستنفر طاقاته ومكنوناته لفهم أكبر لأسباب وجوده، فيعمل بجد ومثابرة بمقتضى هذا الفهم، فإذا ما تجاوز هذا الوعيُ الفردَ إلى المجتمع أصبح وعياً جمعياً يقود الأمة نحو أهدافها، وهذا النوع من الوعي يتطلب بذل الجهد من مكونات المجتمع كلها.
أمّا حينما ينبهر الفرد بما لدى الآخر، وعجز أن يصنع له وعياً خاصاً به، فانطلق راكضاً وراءه ليكون تابعاً له، غير فاعل فيه، فهو أشبه بالظل الذي ليس له تأثير، وإن بلغ أضعاف طول صاحبه فهو محضُ ظل، وهذا الوجه الآخر للوعي الذي يُعرَف بالوعي المزيف.
لذلك نجد في علوم الإنسان وتقدم المجتمعات أن الوعي الحقيقي هو الشيفرة التي فتحت للإنسان آفاقاً نحو المجد والتألق، فهو يبدأ عند أفراد، لكنهم حملوا على عواتقهم مهمة نشر هذه السمة الإنسانية الراقية لأنهم آمنوا بأنْ لا نهضة ولا تقدم ولا سعادة من دونها، وبهذا حققوا لأقوامهم في زمن قياسي من الرفعة والشرف الإنساني ما لم يتحقق في حقب زمنية مديدة، ويأتي على رأس هؤلاء الفضلاء الأنبياء الكرام، والفلاسفة والعلماء بصنوف مجالاتهم وتخصصاتهم المختلفة، والمصلحون الذين من جملتهم المعلمون والسياسيون والقانونيون والفنّانون، وهؤلاء جميعهم كانوا وما زالوا الوارثين لمشاعل الخير والأمن والسلام للمجتمعات الإنسانية قاطبة، فليس لديهم تفريق بين الناس لأن باعثهم على الخير واحد، وهو تحقيق الأمن والسلام والرخاء والعدل والحرية لكل إنسان.
إن تشكيل وعي الناس أصبح هدفاً تتسابق إليه القوى العالمية والمحلية، مستخدمة وسيلتين هما: الإعلام والتعليم، لكي تبقيهم في دائرة ضيقة ليسهل عليها التحكم بهم، فلا يرون خيراً لهم منها، ولا يراودهم شك في أنهم ليسوا أهلاً لاقتحام ميدان المنافسة معها، وما عليهم إلا أن يُسبِّحوا بحمدها، شاكرين ضارعين لمولاهم أن يحفظها حاميةً “لجهلهم وتخلفهم”، فأصبحنا نرى بفضل تقدم وسائل الاتصال واستغلالها من المؤسسات الإعلامية أن من اليسير اختراق الإنسان في أي مكان، وتشكيل وعيه عن بعد دون الحاجة إلى تجييش البعثات باسم العلم أو الدين أو ما شابههما.
ثم تأتي وسيلة أخرى من وسائل صناعة الوعي لا تقل خطورة عن تلك، وأقصد بها التعليم، فالمدارس يجب أن يتعلم فيها التلميذ تاريخ الإنسان وعلّة وجوده، وكيف تألقت أمم وتخلفت أخرى، ومقومات بقاء الحضارات، وأسباب انحطاطها، ودوره بوصفه فرداً في البحث والتقصي عن الأدوات التي تؤدي إلى إصلاح نفسه ومجتمعه وحمله على المشاركة في كل فعل إنساني يترتب عليه خير للبشرية جمعاء، كما يتعلم فيها ما يرسخ هويته، ويحمي مكتسباته، ويحافظ على خصوصيته وإرثه الحضاري من الذوبان في أمم أخرى لا تشبهه، وليس لديه من المقومات ما يؤهله ليكون لبنة فيها، فيضيع ما يملك في سبيل امتلاك وهم ما لا يملك.
لقد سبق العلم خلق الإنسان، وأول ما خلق الله بعد السموات والأرض أهم أدوات العلم، ألا وهي القلم، فهلا أدركنا خطورة ما نحن عليه؟!
بارك الله في عقلك وقلمك، صنفتي الداء ووصفت الدواء بعبارات بليغه، وأدب يشير الى حسن المحضن الذي أزهرت فيه.
الغالية خيرية
ليس عندي إلا اليسير مما لديكم فلك تحيتي وجزيل شكري على رقة كلماتك