لم تكن مدينة جدة في حاجة إلى أن تنضح جفنها الوسنان بأنداء الثقافة القادمة والمجتلبة؛ لأنها لم تشهد رقادا قط، ولم تخلع عنها حلل المعرفة، ففيها الخزائن الوثائقية والكنوز التاريخية والآثار البشريّة، ومواطئ أقدام أجيال رسمت لنا ماضيا نفاخر به، وحاضرًا نموذجيا إبداعيا…فأحياء جدة، وشواطئها، ومرابعها الثقافية والمعرفية لم تذبل، كما لم تكن هذه العروس (جدة) تحتاج قوافل الطيور المهاجرة لتملأ أعشاش معرفتها بثقافة (متغربة) أو رواية (متنسونة) أو لغة (مستعجمة) ؛ لأنها بقعة انطلقت من جوارها وأنحائها طوابير الثقافة والمعرفة ومنظومات القيم، ومن نسيجها المجتمعي شع نور التجانس والتعايش والانسجام، وعلى مساحاتها وكل تضاريسها تشكلت مكونات المجتمع بكل أطيافه وشرائحه حتى تجلت معالم الألفة والإخاء في أبها صورها…ثم أمّن على كل ذلك قائدها الإداري الشاعر المبدع الملهم خالد الفيصل، فأضحت مزارًا مدنيًّا حيًّا، ومدينة تتحدًث العربية بها وعنها- كما تجلّى في الحديقة الثقافية-وبدأ الأدباء والشعراء والمثقفون يحطون عصا ترحالهم على شواطئها، يغشونها فيشعرون أن أدبهم يتقازم أمام جمالها وإبداعها، وتتصاغر ثقافتهم أمام كنوزها وجمال رواشينها، فلا يجدون مفرا من أن ينيخوا إبداعاتهم المتورمة والظامئة لتمتاح من الفيض السحري الكامن في أزقتها، وحواريها وشواطئها، وينهلوا من معين الإبداع الذي كان سطّره محمد حسن العواد وحمزة شحاتة، وهو يقول:
النُّهى بين شاطئيك غريقُ
والهوى فيك حالمٌ ما يفيق
ورؤى الحبِّ في رحابك شتَّى يستفز الأسير منها الطليقُ
ومغانيك في النفوس الصديا ت إلى ريِّها المنيع رحيقُ
وليتتلمذوا على نظامها الاعتدالي المشبع بالحكمة والعلم والعمل الذي كان يرسمه ذلك الرعيل. وإذا كانت (جدة) التي هي سجل الثقافة ورواية التاريخ وينابيع الفكر والثقافة الثرة- تقدّم نفسها اليوم على أنها المدينة النابضة بالحياة، والعروس المتشحة بالجمال فإنها كانت كذلك بالأمس وستكون كذلك غدا؛ لأنها هي الثقافة ذاتها، وهي مدينة تملك برصيدها الجغرافي والمجتمعي والتأريخي والعالمي والروحي وكل تفاصيلها الجاذبية التي تجعلها قبلة الثقافة وجنة المعرفة، ومرتع الفكر.
حين أتحدّث عن (جدة) أدرك أن كلّ ممر في مواشيها وكل منظر من حواشيها، وكل حي من أحيائها يشكل معلما من معالم المعرفة ودرسا من دروس الحياة يتضوع بالذكريات الندية ويروق بالرواء البهيج، ويتحدث بالنغم التاريخي الملهم، فتتكامل في أرجائها مراحل الزمن، وتتنادى أحايث اليوم بأصداء الأمس لتكتبا رواية المستقبل.إن (جدّة) لم تعد عند من يقرأ ويرسم الجمال من المبدعين والمثقفين هي الثقافة، بل الثقافة هي ( جدة)، فأجواؤها الماضوية تصعد بالفكر وترتقي بالإبداع وتعلق بالذاكرة وتمتزج بالنفس؛ ولهذا فإن الحديث عنها والتغني بها جاء استجابة لمطالب زمن تجوس فيه المعرفة خلال تضاريس الثقافة متشوفة لمن للمكان الذي يرتقي بها، وباحثة عمن يضمد جروحها، حتى إذا ما أضناها البحث ووصلت مرحلة اللهاث استنجدت بعبق الجمال الذي تتوشح به عروس المدائن، وقد انتثر وشم الجمال على مفاصل جسدها النّضر… يتوارى عن الأدباء المثقفين مفردات الحديث عن (باختن وجاكبسون وجاك دريدا ودوسسير) لأنهم بساحة (جدة) وكفاهم جمالا وإبداعًا وإمتاعًا…لقد رأيت (جدة) بالأمس القريب وفي (الحديقة الثقافية) ومبادرات اللسان العربي ( كيف نكون قدوة بلغة القرآن الكريم– أقول رأيتها تخرج في زينتها لتستقبل وفود الثقافة الحقة يفدون إليها وعلى كل ضامر ومن كل فج عميق، ليشهدوا منافع معرفية ولغوية وجمالية مكانيّة وثقافية، وهي تطلق لنفسها عنان المرح والفرح، فتصدح بالتاريخ وتتغنى بمبادرات الفصحى، وتلجلج في أرجائها هتافات التسامح والتعايش والاعتدال والجمال….ستظل ( جدة) البقعة التي كان ومازال نهارها ضاحكا، ولم يكن ليلها حالكا، وإنها شعاع نور يضيء طريق المثقفين ويكشف حقيقة المتثيقفين.. وألقاكم