استيقظتِ الثكلى تصيحُ وتردّدُ في هذيان: لو كان مسافراً “فَأحْتَرِيْه”! فيُمَزِّقُ صِيَاحُها ما بَقِيَ فِيْهَا مِنْ قَلْبٍ مُتَهتِّكٍ كَليْم، وَيضرِبُ بِمِعْوَلِهِ الوَحْشِيِّ فُؤَادَاً قَدْ فرغَ إِلّا مِنْ نَبْضِ يَقِيْن.
وتَلُمُّ بيديْها المُرتَعِشتَينِ فُتَاتَ ضُلوعِهَا وَتَبتهِلُ، وَالعَينانِ المُتعَبتَانِ تَسْفحُ دمُوعَهمها الكَسِيحةَ ويُعَاوِدُها البُكاءُ والحَنيْن، وتَزحَفُ مُثقَلةً بحُزنهَا الّذي يَقْتَاتُ على رُفَاتِ امرأةٍ تتنفّسُ الذِّكرى وقِصصاً حُلوةً تقطعُ بها مسافاتِ الوقتِ وتُزيحُ عن ناظريها قُبحَ الدنيا لبعضِ حِين.
هنا كان يجلسُ، قريباً كأقرب من سواد العين للعينين،
يضحك فيُجَنِّحُ فُؤادِي بالفرحِ، وحينما كان يُطرِقُ ساهيَ الفِكرِ أتَحسّسُ قلبيَ إنْ كانَ بهِ جُرحٌ.
هناك، في تلكَ الأركانِ المتواريةِ خلف ستارِ الزمانِ كان يلهُو مع إخوتِه وقد ملؤوا دنياي بهجةً، فلم ألتَفِت إلى الدنيا إنْ هي عبستْ أو بسمتْ.
صورُ طفولتِه الحبيبةِ تفجّر أشواقِي، وعُنفوانُ شبابهِ يعملُ بمِبضَعِهِ في شراييني. يا أقربَ منَ القلبِ للقلبِ، مِنْ نَظرِ العينِ للعينِ، مِنْ دمِ شراييني لشرياني، ليتكَ صحِبتَنِي مَعك لمّا هممتَ بالرحيلِ، فلم أبقَ بعدَك!
لماذا سمحتَ لِغُولِ الفراقِ أنْ يتَفَرّدَ بِي؟
ماذا بقيَ ليْ بعدَكَ غير آهاتٍ مدفونةٍ تحتَ رُكامٍ مِنَ الوَجَعِ، وحَمَام يَهدلُ بالنَّوْحِ، وهواء أفسدَهُ غِيَابك؟!