انتقلت إلى المدرسة السعودية المتوسطة، وكانت مدرسة تهتم براحة الطالب وإسعاده، وتحرص على النشاطات اللا صفية من مسرح ومسابقات رياضية، ورحلات مدرسية متنوعة منها رحلة بحرية خيالية لاتُنسى إلى جزيرة الواسطة بالتعاون والتنسيق مع خفر السواحل الذي كان يؤمن لنا سفينة تنقلنا إلى تلك الجزيرة الساحرة في البحر، والتي تبعد حوالي الساعتين عن جدة، ونقضي فيها يومًا جميلًا منعشًا ورائعًا من الصباح الباكر، ثم نعود قبل الغروب.
كانت الجزيرة واحة من الجمال الآخاذ، والمناظر الخلابة التي تتساقط على عينيك مطرًا كالرذاذ، وطيور بحرية جميلة الألوان كانت تغني لنا أغنية أبعاد كنتم ولا قريبين يا أولاد، وكان البحر صافيًا، ويكتسي زرقة فيها اللون الارتكوازي يكون طاغيًا على كل الألوان، في تمازج جميل كألوان قوس قزح سبحانك ربي ملك العباد، وكانت الجزيرة حالمة لم أشاهد مثلها في حياتي أبدًا في شتى الدول والبلاد.
وهناك هدوء يجعلك تسبح في خيالاتك ولا تفيق منه إلا على صوت العصافير والأمواج، التي تتكسر أمامك دلالًا وغنجًا؛ كأنها تقول لك أيوه قلبي عليك ألتاع، ونسيم عليل يشعرك في عز الصيف أن الجو مرة براد، وكانت جميع المواد التموينية ومعدات الطبخ تأتينا في سفينة أخرى صغيرة، ومعها عدد من العاملين الذين يقومون على شؤون الطبخ لوجبتي الفطور والغذاء؛ وذلك لعمري غاية الهوى والمراد.
والفطور يطبخ في قدر صخم؛ ليكفي عدد الطلبة الكبير الذي كان يشارك في هذه الرحلة الممتعة ودائمًا في توسع وازدياد، وكان فطورنا عبارة عن بيض شكشوكة مطبوخ بالطماطم والبصل يوزع علينا طازجًا من قدر الطبخ على شكل سندوتشات صغيرة نلتهمها بشغف وجوع طفولي حاد، ولا زلت أذكر كيف كنا نصطف في طابور طويل؛ لنحظى بالوجبة الشهية التي والله لازال جمال ولذة طعمها في لساني إلى اليوم والطباخ الذي كان يحن علي حين يراني أنظر إليه ليعطيني سندوتشًا آخر، ويقول لي كُلْ كُلْ الخير كثير تبغى زيادة ياولد لاتستحي أنا زي عمك رشاد.
ثم ننطلق بعدها للسباحة، ولعب الكرة والتراشق بالمياه في سعادة غامرة طربية كأغنية كوكب الشرق فات الميعاد، وتدمع عيني اليوم حين أتذكر تلك اللحظات وأفتقدها وأدندن مع نفسي قائلًا: تفيد بإيه ياندم وتعمل أيه ياعتاب كبرنا وصار عندنا أحفاد.
كانت ساعات مليئة بالفرح والمرح والبهجة والسرور والسعادة الطاغية في أجواء غاية في المتعة والبهجة والسرور، هكذا كانت نوعية الرحلات المدرسية التي لم تُنسَ من مخيلتي حتى الآن بكل مافيها من التنظيم والتميز والانفراد.
وكان معنا في الرحلة أحد الطلبة الفنانين والمبدعين ويملك صوتًا شجيًا من أعذب الأصوات الفنية نستمتع كثيرًا برفقته وجمال صوته والأغاني الجميلة التي يرددها في طريقنا إلى الجزيرة، ومنها يامركب الهند يا أبوا دقلين ياليتني كنتي ربانك، وأكتب على دفتك شطرين اسمي حبيبي وعنوانه، وكان خيالنا الواسع يأخذنا بعيدًا للمحبوبة وفي براءة مراهقتنا الجميلة نتسارع، ونتسابق لكي نرسم على المركب البحري قلبًا وسهمًا يخترقه يجمع بيننا وبين من نحب تتساقط منه قطرات دم كاذبة أكتشفنا حين كبرنا أنها قلوب من ورق ودماء مزيفة.
وفي أحد الرحلات البحرية تعرضت السفينة أثناء العودة إلى جدة لعواصف وأمواج شديدة قدفت بالسفينة في كل اتجاه، ولولا عناية الله لتعرضنا للغرق وبعدها صدر قرار بعدم السماح بأخذ طلبة المدارس إلى الجزر البحرية خوفًا من الغرق والمسؤولية.
آاه يازمن كم كانت تلك الرحلات فاتنة آسرة تجدد الحياة الرتيبة، وتخلق ألفة وأجواء محبة ووئام بين الطلاب وإدارة المدرسة لا تقدر بثمن.
انتقلت إلى مدارس الثغر النموذجية في السنة الثانية متوسط، وكانت نقلة نوعية في حياتي من كل اتجاه.
فالبداية كانت في اللبس حيث أخذني والدي إلى محلات (محسن) في منطقة البلد بمدينة جدة، والذي كان يعتبر من المحلات الراقية التي تؤمن الزِّي المدرسي الخاص بهذه المدارس، وكان عبارة عن بنطلون رمادي يخزي العين وقميص أبيض أنيق ينسيك أنت فين، وكان هذا الزِّي هو التغير الأول في حياتي وفي أول يوم دخلت فيه المدرسة وجدت نفسي في عالم جديد مختلف، عالم فيه أنماط من البشر حباها الله بالكثير من رغد العيش والمكانة الاجتماعية والتجارية المرموقة وقلت لنفسي (فين تروح ياحسن) مع هذا العالم ياصعلوك بين الملوك إلا أنني تماسكت قليلًا، وقلت بصوت غير مسموع يشبه الهمس لاعليك أيها الفتى جدتي كانت تقول: (من جاور السعيد يسعد)،
وأخذت أتأمل مبنى المدرسة، وأقارنه بالمدرسة السابقة التي كنت أدرس بها فأضحك وأستعجب، ثم لا يكفيني ذلك فأعيد النظر وأضحك من جديد وأستغرب، وأتساءل مع نفسي هل نحن فعلًا في السعودية فمن صالة مسرح على أعلى مستوى من التجهيزات الفنية، إلى غرفة خاصة لتعليم الموسيقى مزودة بأحدث الأجهزة والمعدات الموسيقية، إلى نادي خيول متكامل يخليك تحلم أنك بكرة حتشارك في أكبر سباقات الفروسية،
إلى سكن طلاب داخلي أشبه بفندق متكامل تنام فيه نومة أميرية، إلى مطعم خمس نجوم نتناول فيه وجبة غذاء هنية، مشاركة مع طلاب السكن الداخلي كل يوم سبت من كل أسبوع نأكل لحمة وشحمة ودجاج وسمك وخضار وسلطة وفواكه استوائية، إلى ملاعب متنوعة ومتعددة وفصول دراسية في قمة النظافة والتجهيز ومدرسين أكفاء، وتعامل رائع وفق أعلى الأسس التربوية، إلى باصات مكيفة ومخصصة لنقل الطلاب والرحلات المدرسية ومعامل ومكتبة كانت فيها كتب وروايات من جمالها تسحر عنيه.
شيء ولا في الخيال لشخص بسيط مثلي دخل هذه المدرسة بالحظ والعلاقة الطيبة التي كانت تربط والده بمدير عام مدارس الثغر النموذجية في ذلك الوقت الأستاذ عبدالرحمن التونسي -رحمه الله-.
استفدت من التحاقي بهذه المدرسة من البداية في الحصول على العديد من الفوائد والمزايا؛ حيث اضطر والدي أن يتجاوب مع كثير من طلباتي، وكان أولها رفع المصروف المدرسي وشراء دفاتر وأقلام من النوع المرتفع الثمن وليس الذي كنت أستخدمه في السابق، وتغيير شنطة المدرسة من شنطة عادية إلى شنطة فاخرة تنفع تقدمها هدية مناسبة للبيئة الجديدة التي وجدت نفسي فيها فجأة من دون مقدمات تخفف علي، كذلك أيضًا اشترى لي سيارة بالتقسيط بعد أن كان هذا حلم بعيد المنال، لكنه حين شاهد معظم الطلبة يملكون سيارات رأف بحالي بعد سنتين من التوسلات المتكررة والدعم المستمر من الوالدة حفظها الله، صحيح السيارة كانت ليست في مستوى سيارات الزملاء الفارهة، لكنها كانت بالنسبة لي أرّحم ألف مرة من المشي على رجلي كل يوم مايزيد عن ٣ كيلو للوصول للمدرسة صباحًا، والرجوع ظهرًا.
مدارس الثغر النموذجية تاريخ ناصع جميل لايمكن أن أنساه أبدًا درست فيها ٥ سنوات من أجمل سنوات العمر مع بدايات سن المراهقة وأحلام الشباب، وأذكر في تلك الأيام أغاني المطرب (ديمس روسس)، وكيف كانت موضة طاغية لجيلي، وأستمع إلى زملائي، وهم يتبادلون الأشرطة التي تحمل أغاني ذلك المطرب، وأتعجب وأستغرب لماذا أنا مختلف وليس لي نفس الاهتمامات ولا تشدني مثل تلك الأغاني الغربية، فقد كنت متيمًا بأغاني أم كلثوم، وفريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ، وفيروز، وأغاني محمد عبده، وطلال مداح.
وأذكر منها لا تسيء الظن بي حَكْمّ ضميرك قبل ماتحكم علي وطال الجفا كفى كفى والصبر طال ضاع الوفاء يا أهل الوفاء وأصبح محال ) ( وفي سلم الطائرة بكيت غصبن بكيت على محبي لقلبي بعد ماودعوني)، (وماهقيت إنّ البراقع يفّتِنَنّي لين شفت ضباء النفوذ مبرّقَعاتِي، الله وأكّبرْ ياعيونن ناظرنني، فاتناتِنّ ساحراتِنّ آسِراتِي)
ولهذا كنت أتساءل لماذا لا تشد هذه الأغاني رفقائي وزملائي الذين كان يطربهم الغناء الغربي.
أذكر أيضًا موقفًا طريفًا تعرضت له؛ حيث كانت هناك عيادة طبية في المدرسة فيها طبيب يراجعه الطلبة الذين يحتاجون لرعاية طبية، وكأي طالب مراهق رغبت في الخروج من المدرسة في يوم ممطر جميل، ولم يكن هناك مجال للخروج من غير عذر مقبول لمن هم داخل المدرسة، ففكرت أن أفضل حل هو العيادة الطبية فادعيت المرض وأرسلني المدرس إلى العيادة الطبية، وسألني الدكتور عن الأعراض التي أشعر بها فقلت له قلبي يادكتور يوجعني، واهتم الدكتور بالموضوع وكشف علي، وأخذ يسألني أسئلة وانا أرد عليه بطريقة خاطئة وغير صحيحة حتى أضمن أن يسمح لي بالخروج من المدرسة كما أخطط، لكنها فرحة ماتمت حيث اشتبه الدكتور في وجود مشكلة حقيقية لدي في القلب، وطلب الإسعاف لنقلي إلى المستشفى بسرعة، وحاولت أن أخفف من حماسه لكن لا فائدة فقد أصر إصرارًا عجيبًا على نقلي فورًا إلى المستشفى، واتصل يطلب الإسعاف وحين وجدت أن الأمور تطورت إلى هذا الحد، كنت بين نارين إما الاعتراف بأنني لا أشتكي من أي عارض صحي، وأن الهدف كان الزوغان من المدرسة وتلك مصيبة سيكون لها عواقب كبيرة؛ لأنه سيتم وضعي في القائمة السوداء من بين الطلبة الذين سيتم وضعهم تحت المجهر، وإما أن أُكّمِلّ الفيلم إلى نهايته، وهذا سيحرمني من تحقيق كل مخططاتي وقضاء اليوم كله في المستشفى.
ولم أجد بُدًّا من إكمال الفيلم حتى النهاية خوفًا من اكتشاف أمري وضاع اليوم، وأنا قابع في طوارئ مستشفى باب شريف الحكومي أعمل أشعة وتحليلات، وانا أكاد أقطع ملابسي من القهر من المقلب الذي وضعت نفسي فيه، وضاع الجو الماطر الذي كنت أحلم بالاستمتاع به.
اما أصحابي فقد قضوا اليوم على ضفاف الشاطئ الخاص بفندق العطاس بمنطقة أبحر الجميلة، وأذكر بكثير من الاحترام والتقدير وكيل المدرسة في المرحلة الثانوية سعادة الأستاذ فؤاد أبو الخير ذلك الرجل الفاضل والمربي القدير والموجه الكبير، الذي كان لديه من سحر القول أجمله، ومن صفاء النفس والروح أنبله،
ومازلت أذكر حتى اليوم كلماته الهادفة ونصائحه الصادقة في طابور المدرسة الصباحي في آخر يوم في المرحلة الثانوية، وكيف كان يزرع في نفوسنا الحماس والأمل بالمستقبل والطريق والمسار الزاهر الذي ينتظرنا بغد أجمل، وأن البلاد تنتظر عطاءكم وكفاحكم واجتهادكم، واختلط صوته بدموعه، وهو يقول لنا يا أبنائي مهمتنا قاربت على الانتهاء، وتبقى المهمة الأكبر عليكم ياشبابنا الأصفياء، في اختيار المسار الذي يناسبكم وأنا واثق ومتأكد أنكم ستكونون يومًا قادة المستقبل لهذه البلاد المباركة التي همتها تعانق السماء.
صدقت توقعاتك ياسيدي فأبناء مدارس الثغر النموذجية اليوم في كل موقع لهم بصمة مميزة، وفي كل محفل تجد منهم قادة يصنعون التغير من خريجين هذه المدرسة النموذجية الرائعة التي سبقت عصرها وزمانها أطال الله في عمرك، وشافاك وعافاك أستاذنا ومعلمنا الكبير (فؤاد أبو الخير)، فقد كنت مربيًا نبيلًا وتربويًا قديرًا، اجتمعت فيك كل الصفات الحسان.
الله الله على الجمال وعلى ذكريات زمان شكررررا كاتبنا من القلب ?
هذه مقالة دسمة جعلتها حروفك وجبة شهية صحية تذوب في الفم بدون مضغ من جمالها وروعتها بارك الله فيك من قلم مرهف الاحساس ، كسبتك صحيفة مكة فشكراً لها على هذا التميز والتفوق في اختيار كتابها ومواضيعها التي تجذب الناس
ابام لاتنسي ودكري جميله كان والدي الحبيبي يرغب ان يلخق اخي ابراهيم مدارس الثغر القسم الداخالي ودهب حفظه الله الي الملك فيصل في الطائف لياخذ الموافقه فقبل اخي ولكنه رفض ان يترك مدرسته في مكه وينتقل الي جده رحم الله ملكنا الحبيب الملك فيصل واخوانه وموسس هذا البلد الحرام
لا شك أنني ركبت البحر وأبحرت في عبابه وتأملت جماله وتنزهت على شطه وفي رحابه
لا أنكر أبداً بأن رسمكم لهذه الحروف جعلني متفرجة نهمة للأكثر فالأكثر
ففي ذاك البيان سحر أطلق لي عنان حسي وبصر قلبي لأتأمل تلك المراحل المبهرة من سنوات العمر..وكأنك تتحدث عني وعنا جميعا.. كأنك تصف حالنا وحال قلوبنا التي نزفت حينها حبا..لم يكن مزيفا بل كان رابطا لنا لكل العمر..
كم كانت مرادفاتكم هينة سجية يزركشها الصدق والبهاء والحنية..
كم حفرت تلك الذكريات بالعمر ركائز.. وكم نقشت على درب التاريخ مآثر..
كم كانت كلمات الأساتذة والمدرّسات دعامات لظهورنا وتستجلب ماخفي منا من طاقات.. وعندما ذكرت كلمة أحدهم فاض دمعي وتذكرت هل لنا من يذكر أثرنا بعد جهدنا في تفجير المواهب وإعطاء التحفيزات
شكرا لكم من القلب صحيفة مكة التي أكرمتنا بقراءةٍ ممتعة ماتعة جميلة مبهجة رغم مافي طيات روح كاتبها من جهود وإعياءات..
وسنابل تقدير لذخر الحرف و ونفاسة الكلمة وسمو تلك الأبجدية التي لونتها سعادة الكاتب الفاضل بألوان حرفية حسية سمعية بصرية مزاجية مرحة حزينة شغفةٍ تناوبت كألوان قوس قزح في عرض السماء.. ?
مقالة قصصية لا تمل قراءتها مشوقة أحداثها ، رائعة سطورها كلمة شكراً لا تكفي بحق من كتبها ومن ساهم في نشرها فقد أخذتنا الى حديث عمر جميل وبوح نفس مثير