ذات يوم أحضر والدي رحمه الله عاملا من جنسية عربية للمنزل، وأمرني أن اعيده بعد نهاية عمله إلى منزله، وكنت حينئذ في المستوى الأول من دراستي فيالإعلام، فدار بيني وبينه نقاش طويل، ثم التفت إلي وسألني “فين بتقرأ ياولد؟” فأجبته على الفور، أدرس في الإعلام، ثم طلب مني أن أناوله قلماً في جيبي، فقلبه قليلاً في يده فسألني “كديش حقه؟” فخشيت أن أجيبه، لأن ثمنه كان أكثر من أجرته، فقلت له هذا القلم سعره زهيد، فالتفت إلي وقال بنبرة حادة لم اتبين معناها إلا عندما تقدمت في الدراسة وأوشكت على التخرج،” بتحكيش هيك قلمك غالي“، واسقط في يدي وقتئذ ظناً مني أنه علم بكذبي عليه.
أتذكر هذه القصة في كل مرة أقرأ فيها مقالاً، أو اشاهد برنامجاً تلفزيونيا،وخصوصاً تلك التي تنقصها الأمانة، والنزاهة، والمهنية، عندها أردد أين أنت يا أبا إحسان؟ لترى وتسمع وتقرأ ما تفرزه هذه الأقلام الرخيصة، من كذب وافتراء وتضليل!!، من أجل حفنة دراهم معدودة، أو من أجل ايديولوجيا مسمومة، أحالت الضمير إلى غائب لا ترجي عودته، وصنعت من المهنة الشريفة وسيلة كسب غير مشروع، تحاسب عليه القوانين، وتسقط بسببه الحكومات، وتتبرأ من صاحبها الأنظمة السياسية التي سخرت هذه الأقلام لخدمتها والدفاع عنها عندما يُكشف أمرها.
هذه الأقلام المسمومة هي من صنعت محتوى برامج تليفزيونية، وكتبت التعليق، ووظفت كلمات بعينها ذات مدلولات مهمة ومعاني خاصة، وتساؤلات مدادها الحقد الأسود وقوامها فلسفة إعلامية ذات جذور فكرية هدامة، سعت القناة لإثارتها، وترك الإجابة عنها مفتوحة يستنتجها المشاهد بنفسه، بعد أن هيئته للوصول بطريقة ماكرة، وغير محسوسة إلى ما تريده، بعدما رفدت برنامجها بصور ثابتة ومتحركة، لتكون مكملة للنص الإعلامي، في عملية إقناع الجمهور والتأثير فيه.
وإذا كان علماء اللغة الإعلامية يؤكدون على أن القدرة على الاقناع تكمن في القدرة على صناعة الرسالة بمفاهيمها المتعددة بطريقة تقنع الناس بها، فقد تعاملت قناة الجزيرة ببراعة فائقة تميزت بها في صناعة التضليل والكذب، في تحديد المفاهيم التي تريد إيصالها في برنامج “ما خفي أعظم“، فالضابط الفرنسي المزعوم في أحداث البرنامج تم تقديمه بصورة إنسانية برفضه استخدام كميات مضاعفة من الغاز المسيل للدموع!!
وفي المقابل لم تتحدث قناة الفتنة عن قانون المكان، وقدسيته، واعتباراته المتعددة ووجود الرهائن التي حرصت السعودية على سلامتهم قدر المستطاع، بل إن البرنامج لم يسع لإغفالها فحسب، لكنه، لم يعط المشاهد مساحة للتفكير بها، من خلال الميلودراما السريعة التي اعتمد عليها البرنامج، ومحاولة تتابع الأحداث حتى لا يكون هناك متسع للتساؤلات، والتفكير، سقطات الجزيرة كثيرة، فقد خسرت الرهان عندما تحدثت عن قضية لا يزال الكثير ممن شهدها وشارك بها من الأحياء.
فوسائل الإعلام لاتحدد لنا ما نشاهده ونقرؤه فقط، بل تحدد لنا كذلك كيف نقرأ الأحداث وكيف نفهمها وفي أي إطار نضعها لنفسرها ونحللها وفق رؤية صناع المحتوى الإعلامي، وتحقيقاً لأهدافه.
وقفة:
” إن كان لابد أن تكذب ، اكذب بذكاء .. لا تجعلني أتنازل عن نصف عقلي لأصدقك“ –بوب مارلي
كلام صحيح د. عبدالله ان بعض الأقلام لاتكتب الحقيقة وباستطاعتها نشر الإشاعات والأكاذيب