حسن عطا الله العمري

حديث العمر (٥-٥)

تخرجت من الثانوية العامة، وتركت مدارس الثغر النموذجية متجهًا إلى المستقبل المجهول بلا خطط أو توجهات محددة، أصدقائي وزملائي كانوا من أبناء الطبقة الميسورة اتجهوا بسهولة إلى أرقى الجامعات العالمية، أما أنا فرضيت بواقعي وظروفي المالية التي لا تسمح لي بالسفر والدراسة على حساب الأهل؛ حيث لم تكن في زمننا الفرص مِفتّوحة على مصراعيها للطلبة للابتعاث الخارجي، كما هي اليوم ولم تكن الظروف الاقتصادية للدولة، كما هو الحال هذه الأيام.

أخذني أبي إلى صديق يعرفه في شركة مصفاة بترومين؛ بحثًا عن عمل لديه في الشركة، فنصحني ذلك الإنسان الرائع بالعمل في الخطوط السعودية؛ حيث إن طبيعة العمل لديهم في مصفاة بترومين جافة، وتحتاج إلى تخصصات فنية ورفع سماعة الهاتف على الشخص الذي يعرفه، وقال لي: اذهب إليه الآن هو ينتظرك، وحين قابلته قال: تحب تعمل في الصباح أو بعد الظهر فقلت: ياليت بعد الظهر؛ لأني أريد أن أكمل دراستي الجامعية في  فترة الصباح قال لي: إذًا اذهب الآن إلى سوق البلد، واشتري بنطلونًا أخضر وقميصًا أبيض، وكرفتة خضراء،وتعال إلى  مكتب  مبيعات التذاكر والحجز  دوامك  الساعة ٢ ونصف بعد الظهر من اليوم.

لم أصدق ماسمعت، ولم أسأله كم الراتب وماهي الوظيفة؟؟

وحين ذهبت إلى المكتب سألني المشرف أنت الموظف الجديد (حسن) قلت: نعم، قال: أهلًا وسهلًا لا تقلق ستتعلم كل شيء هذا الأسبوع من زملائك؛ فقط استمع وشاهد، واعمل ما أقوله لك.

مرّ اليوم الأول جميلًا، وكل شئ كان فيه تجربة جديدة لي حتى لغة الطيران كانت غريبة على مسامعي؛ حيث كانت الحروف الإنجليزية لأرقام الحجز تنطق بشكل مختلف فحرف A يقال له ألفا والـ B يقالوا له برافوا وZ  يقال له زولوا؛ لكي لايكون هناك خطأ في النطق أو السماع.

وفي آخر الشهر هبطت علي ثروة مالية احترت ماذا أصنع بها٣ رواتب دفعة واحدة عبارة عن راتبين بدل تعيين وراتب الشهر، وشعرت أن أبواب الخير والرزق  فتحت لي على مصراعيها.

لم يمضِ على عملي في مكاتب الحجز والتذاكر سوى عدة أسابيع إلاّ وتم  ترشيحي لدورة متخصصة في  إصدار التذاكر في القاهرة، وكانت المره الأولى التي أحضر فيها دورة خارجية، وكذلك المرة الأولى التي أسافر فيها إلى مصر الحرية.

وكان الفندق الذي عقدت فيه الدورة في غاية الفخامة والروعة، ويقال إنه كان أحد القصور الملكية التي تعود إلى  عهد الملك فاروق.

حتى هذا النوع من الفنادق لم أكن متعودًا عليه، وكان العاملات الذين يعملون في الفندق في قمة الأناقة واللباقة والدلال؛خصوصًا في  الاستقبال والمطاعم، ومقاهي الفندق المتعددة.

ولطالما كنت  أسّتمتِعُ  ويحلو لي الجلوس في صالة الاستقبال في الفندق، أتأمل هذه الوجوه المشرقة جمالًا وخفة دم لاتوصف.

شاهدت المسابح المختلطة في الفندق، ورميت نفسي مرتديًا طوَّق النجاة في المسبح كيفما شاء فقط؛ لكي أجد سببًا للدخول في حوض السباحة ومافيه من إغراءات لشاب مثلي قادمًا من مجتمع محافظ وبسيط لم يتعوّد على هذا الانفتاح.

أذكر أيضًا أنه كان معنا بعض الموظفات الأجنبيات والعربيات العاملات في محطات خارجية، وكانت تجربة جديدة تعلمت منها أن العنصر النسائي أكبر من مجرد هوى وغرام، لما لاحظته فيهن من جدية، ورقي، واحترام، وتركيز في الدورة واهتمام.

وكان يحلو لي في المساء الذهاب إلى كازينو قصر النيل السياحي، وأجلس في ذلك المقهى الشاعري على ضفاف النيل أتأمل جمال النيل، وحديث العاشقين على ضفافه.

كان هذا الكازينو مشهورًا بأي سكريم مميز خاص به، وكنت أرى الجميع يطلبونه فطلبته وأعجبني كثيرًا وماهي إلا لحظات ويأتيني مصور ويقول لي: (صورة يابيه) فقبلت عرضه واكتشفت أنه تم توريطي في عدد من الصور بأحجام وأشكال مختلفة بحجة أن صورة واحدة غير ممكن عملها لأسباب فنية، ودفعت مضطرًا  لكني لم أندم على ذلك أبدًا، فكلما نظرت إلى تلك الصور اليوم  ابتسمت ودمعت عيني في نفس الوقت لما تثيره تلك الصور في النفس من ذكريات جميلة، وآهات  دفينة في الأعماق.

كان عملي في الخطوط السعودية في مكتب التذاكر يبدأ منالساعة الثانية والنصف ظهرًا، وكانت فرصة مواتية لكي أستفيد من الوقت الشاغر في فترة الصباح  في إكمال دراستي الجامعية إلا أن تطوّرًا جديدًا حصل في حياتي، جعلني أؤجل  هذا القرار قليلًا، فقد قررت  فجاءة أن أتزوج في سن مبكرة جدًا، وفاتحت والدي ووالدتي بهذه الرغبة، لكن الوالد كان حكيمًا ومربيًا فاضلًا، ويرغب في التأكد من جديتي وقدرتي على تحمل المسؤولية، فقال لي تتزوج كيف يابني ؟؟ وأنت لسة ماجمعت شيئًا للزواج، يا شاطر الزواج ليس نزوة وبنات الناس ماهي لعبة لما تجمع تكاليف الزواج يصير خيرًا.

شكّلَ رد والدي تحديًا قويًا  بالنسبة لي ففعلًا أنا في بداية عملي بالخطوط السعودية، ولا أملك أي رصيد مالي يكفي لمصاريف الزواج  ووالدي لم يُظّهِرْ  لي أنه سيدعم زواجي ماليًا؛ لذلك قررت أن أعتمد على نفسي وأستفيد من وقتي فيالفترة الصباحية للالتحاق بعمل آخر؛ إضافة إلى عملي بعد الظهر في الخطوط السعودية.

وهكذا كان  حيث  وجدت وظيفة مناسبة بسرعة للعمل في أحد البنوك صباحًا.

بدأت الشهور الأولى جميلة، ولكنها متعبة حيث كنت أصحو من نومي، وأتجه إلى البنك الساعة السابعة والنصف صباحا ، وأخرج من العمل الثانية ظهرًا ثم  أغير ملابسي، وأرتدي بدلة الخطوط، وأذهب مسرعًا للعمل في مكاتب الحجز والتذاكر حتى العاشرة والنصف ليلًا.

لكن كان كل هذا التعب والجهد  يهون آخر الشهر حين أستلم راتبين، أحتفظ بالراتب الأول لمصاريف الزواج الذي أحلم  به، وأصرف  جزءًا بسيطًًا من الراتب الثاني.

حين رآني والدي على هذا النحو من الحماس والاجتهاد، وافق على أن نتقدم لخطبة العروسة.

وذهبنا وأنا في قمة السعادة والفرح، وليس  لدي مشكلة فيالأمور المالية؛ حيث إن الخطة التي رسمتها في ظل المصدرالإضافي للدخل كانت كفيلة بتحقيق مشروع الزواج بدون أي مشكلة مالية.

لكن الرياح أحيانًا لا تأتي كما تشتهي السفن، فقد انقلبت الأحداث والتطورات وانعكست، وانتكست  رأسًا على عقب،بعد مرور عدة أيام من الخطبة؛ حيث يبدو أنني حسدت نفسي أو جاءتني عين ما صلت على النبي.

فبعد أسبوع واحد فقط، وقبل أن أتهنى بالحلم الجميل، حدث ما لم أكن أتوقعه أو أحسب له حسابًا، حيث فجأة وأنا مندمج في عملي بمكتب الحجز والتذاكر في خدمة العملاء، وإذا بشخص يقف فوق رأسي وأمامي مباشرة مستغربًا ويقول لي:

(حسن إيش تسوي هنا!!)، ورفعت رأسي وإذا به مدير البنك الذي أعمل فيه في الفترة الصباحية.

لم أستطع  أن أعلق أو أرد بكلمة واحدة سوى بابتسامة صفراء، وأنا أتمتم وأقول له: تفضل.. تفضل..غدًا صباحًا سأشرح لك  في البنك.

وقمت بالاهتمام به، وعمل الحجز والتذكرة التي يرغبها بسرعة وبحفاوة بالغة لعل وعسى أن لا يسبب لي هذا المدير أي مشكلة، لكن نظراته كانت حادة ومريبة، وتنبئي بشرر.

في الصباح الباكر ولسه باقول يافتاح ياعليم يارزاق ياكريم ودوبي أجلس على المكتب إلا ويأتيني طلب استدعاء عاجل من مدير البنك يطلب حضوري فورًا.

دخلت إلى مكّتَبِه أقَدِمْ خطوة، وأؤخر خطوة أخرى، وأقول يارب سترك، وأدعي أن الله يفكني من شره، ويحنن قلبه علي.

وابتدأ المسلسل بأن  طلب مني أن أغلق الباب، وجلست أمامه أننتظر وعدي وحدي، ورفع رأسه، ونظر إلي وعينه تقدح شررًا،وثار في وجهي ثورة عارمة، وأسمعني كلمات قاسية ليس لها أول من آخر  على شاكلة (أنت كيف تسوي كذا، أنت تفكرنفسك ذكيًا، أنت ما أنتَ عارف المصيبة اللي سويتها).

وحين أنتهى  من ثورته، قصصت عليه دوافعي التي أجبرتني على العمل صباحًا ومساءً، ورغبتي في الزواج وأوضحت له أنني لم أتأخر يومًا واحدًا عن عملي؛ ولهذا فإن البنك لم يتضرر من عملي الثاني في الفترة المسائية، ورجوته أن يغض الطرف عن ذلك على الأقل لسنة واحدة؛ لأني لن أسّتمرّ في هذا الوضع مستقبلًا لرغبتي في إكمال دراستي الجامعية.

لكنه للأسف كان رجلًا قاسيًا لا يؤمن بالمرونة، ولا مكان لديه لأي تبريرات، وقال لي أمامك (يا حسن) ٢٤ ساعة إما أن تستقيل من البنك أو تستقيل من الخطوط السعودية غير كذا لاتحاول.

خرجت من مكتبه مكتئبًا حزينًا متوترًا، دامع العين، حزين القلب، والخاطر، ضعيف الحيلة، شايل هموم الدنيا على رأسي، متوهمًا أن العروسة طارت عليّ وأن الزيجة أصبحت بعيدة عن عيني، وتخيلت أن والدي سيزعل زعلًا شديدًا؛ لأنه سوف يظن أن هذا يعتبر تكاسلًا مني بعد أن ورطته في الخطبة والزواج

فكرت في الأمر جيدًا، وكان راتب الخطوط أقل من راتب البنك، لكن بيئة العمل كانت أفضل بمراحل.

واتخذت قراري الذي لم أندم عليه أبدًا في تقديم استقالتي منالبنك، والبقاء في الخطوط السعودية رضوخًا لأوامر وتعليمات مدير البنك، وسبحان الله الرازق الوهاب فلقد فتح الله علي، وتزوجت في نهاية السنة، كما كان مخططًا، وساعدني أبي، وتفهم الموقف ودعمني كثيرًا، ثم بفضل لله استطعت أن أكمل دراستي الجامعية خلال فترة الصباح طالبًا منتظمًا، والعمل في المساء في الخطوط السعودية، وشاء الله أن ينتقل عملي فيالصباح في الخطوط، فأكملت دراستي للماجستير؛ حيث كانت دراسة الماجستير في ذلك الوقت في الفترة المسائية.

لا يعرف الإنسان أبواب الخير التي يفتحها الله له، ويُسَخّرَها له من حيث لا يحتسب، وصحيح حين يقال في الأمثال: رُبَ ضارة نافعة.

ومع كل مرارة الألم الذي سببه لي ذلك المدير القاسي إلا أنني كل ما قابلته في مناسبة أقول له ضاحكًا: جزاك الله خيرًا،لقد كنت سببًا في زواجي، وحصولي على درجة الماجستير حين أرغمتني على الاستقالة، فقد أيقظت المارد داخلي.

Related Articles

4 Comments

  1. عصامية في الروح والنفس تتبدى متألقة من خلال النص الجميل الممتع هذا ما زرعه بنا الآباء
    وكم نتمنى أن نزرعه بأبنائنا
    رسم تصويري لكل كلمة تنثر حروفها وكأنها صورة حية أمامنا تنقلنا من مكان لآخر.. بديع هذا الوصف وممتع ذاك السرد.. تتألق الأفكار فيها ومضات حس وشعور تستدعينا لمتابعة ذاك الحديث الساخن لذاك العمر الذي زرعتم لبناته بالكفاح والجد والاجتهاد..
    تباهى هذا الحديث بوالد حفظه الله كان هو مسند الظهر في خطواتك الأساسية في هذه الحياة.. من جد في كسب الرزق.. والعائلة ومن ثم أبرقت ببوادر الخير من خلال تلبد غيم سحب مزاج ذاك المدير القاسي.. فأرعدت عزيمتك واستفاق ذاك المارد في أسرار تلك الشخصية القيادية وتهاطلت على ذاكرته وخبرته وثقافته تلك الشهادات التي ترتقي به ليكون دوما وابدا بالمقدمة… بوركت الأيدي وسلمت الأنامل

  2. قصة شاهدة على أن الله لايغير مابقوم حتى يغييروا ما بأنفسهم .. وربنا مايضيع تعب أحد .. مساندة الأهل لاغنى عنها، ولكن الرغبة الشخصية هي أساس النجاح

  3. قصة جميلة جدا وقرار مصيري اتخذته استاذ حسن كان له اثر جميل في حياتك (وعسى ان تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)

  4. لكل مقطع و جملة درس أبوي لابنائك و للشباب، و لأسلوبك في السرد و لحكمة بالغه من تجربتك أوصلت إحساسك قبل كلماتك.
    شكرًا لتعزيز الإيمان بقدرة الله و الرضا بالمكتوب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button