حينما يموت الرجال .. تتوقف في المآقي العبرات ..
وتذوب المحابر في تأبين الكبار.. واليوم من أصعب أيام حياتي ..
لقد فقدتُ والدي الشيخ المبجل عبد الرحمن رجب..
نعم .. اجتاحني حُزنًا لم أشعر به إلا حينما فقدت “أبي”.
نعم .. فقدت أبي قبل نحو عامين، وبالتحديد في ربيع الآخر عام ١٤٣٩ ..
واليوم .. أفقد من جديد “والدي” وفي جمادى الآخرة عام ١٤٤١ أيضًا..
لماذا أقول “والدي”؛ لأنه حين رحيل أبي واساني بقوله “أنا والدك”، وكان حيث الوعد وظل يطمأن على أحوالي خلال العامين الماضيين ..
وللحق أقول .. لقد فقدنا اليوم رمزًا لا يعوضنا عنه أحد ..
فقدنا علمًا من أعلام مكة وسيد من أنبل النبلاء ..
وكان رحيله فقدًا عظيمًا، ولن تجبر الدنيا كسر ابتعاده عنا..
لماذا ؟ لأنه يصعب أن تجد له بين الأنام بديلًا ..
ولكن سيظل ذكره باقيًا فينا ما بقيت أرواحنا.
ولن ننسى مواقفه الشامخة، وتجلياته العظيمة، وبصماته الخالدة ..
فقلوبنا ستظل معلقة به حبًا، وعشقًا، وستظل ذكراه عالقة في أذهاننا ومرسومة في تفاصيل حياتنا ..
وسنذكره دومًا مع هبات النسيم وتجليات المطر الذي حيثما وقع عم نفعه كل أحد..
ولن أقول وداعًا يا شيخ المراجل؛ لأنني لم أعتاد يومًا على وداع من أحب لأنني في الحقيقة لا أفارقهم ولأنني أدرك أن الوداع للغرباء وليس للأحباب..
وسأظل دومًا أحتفظ بسير أحبائي الراحلين، وسيظل قلبي ينادي الغائبين، ويتلمس خطاهم ..
وسيبقى سيدي “أبا مصطفى” في سويداء قلبي إلى جوار أبي الحبيب ..
اليوم عشتُ لحظات الوداع المر لرحيل رجل بقيمة وقامة وهامة شيخ المراجل أبا محمد .. بالضبط كما عشتها حين رحل أبي..
وليتك ياسيدي يا حبيب قلوبنا بقيت فينا أبد الدهر فأمثالي لا يجيدون فراق أمثالك أيها الشامخ ..
ولا بد من أوجاع الفراق التي تعقُب أفراح اللقاء فكم يمضي الفراق بلا لقاء، ولكن لا لقاء بلا فراق.
ولقد أُصبتُ اليوم فور تلقي نبأ رحيلك عنا
بحالة من الصمت، وثارت في داخلي موجة حزن عميق، وتلعثم بي اللسان جراء هذا المصاب الجلل
وحارت أناملي عن البوح بمكنوناتي تجاه مواقفك الراسخة في ثنايا العقل؛ لأن هذا الرحيل ليس بالمر اليسير بل أشبه بالعلقم العسير ..
ياسيدي سأحتضن في فؤادي جرح الزمن الغائر
وكأنني أسير وحيدًا فوق أشواك الألم، ولا أعرف إلى أين المسير؟!
لأنني مكبل بذكريات أيام وليالي جميلة قضيتها معك ومكبلًا بحمل ثقيل حملتني إياه وموقف كبير حينما واسيتني فجرًا بين المقابر حين كنت مثقلًا بالحزن فور مواراة أبي الثرى في مقبرة الشهداء.
وكُنت لي خير سند حينما حرصت مع غروب ذلك اليوم أن تكون بجواري وأنا أستقبل المعزين.
وأتذكر وصيتك حينما كنت تقول لي أنفق يوميًا لو ريالًا واحدًا صدقة عن والدك.
وأود أن أخبرك بأنني ملتزم بنصحك حينما قلت لي لا تنقطع عن الدعاء لوالدك.
وأعدك بأنني من اليوم لن أنقطع عن الدعاء لك أنت أيضًا علني أستطيع رد جزء ولو بسيط من جمائلك علي.
واليوم .. قاومت دموعي أن تنهمر على فراقك لأنك أخبرتني في صف العزاء أن دموع المحبين لا يفرح بها الموتى..
يالله .. ما أصعب أن تبكي بلا دموع، أو أن يذهب أحباؤك بلا رجوع ..
يالله .. ما أصعب أن تشعر بضيق، وكأن المكان من حولك يضيق..
يالله .. ليت الزمان يعود، واللقاء يبقى للأبد، ولكن هذه إرادة الله وسيبقى الموت هو الأنين.
ولكن عزاءنا في أنك خلدت اسمك وذكراك ونبلك في أبنائك الكرام “مصطفى ومحمد” اللذين يحملان صفاتك وسماتك وجمال منطوقك وأخلاقك.
لقد تأخرت في رثائك؛ لأن صدمة الفراق حبست أفكاري عن التعبير عن مكنوناتها، وسيطر الحزن على مشاعري، وأصبحت تائهًا وسط الجموع الغفيرة التي توافدت لتشييعك والتعزية برحيلك رغم أننا جميعًا نحتاج من يواسينا في فراقك ..
وفاضت مشاعري بهذه الأبيات رثاءً في رحيلك:
في مركب الخير كنت المطعم الساقي
ولم تزل يامَْعينُ الفضل ترياقي
ذكراك ذكراك تبقى للورى أملًا
عمرًا يرددها بالشوق مشتاقِ
كم من فقيرٍ بذلتم في حوائجه
حتى تبدد بالظلمات إشراقي
وكم يتيمٍ بفضل الله كنت له
نعم المعين له بذلاً وإنفاقي
حزت الفضائل يامن ذكره حسنٌ
لكل خيرٍ لأجل الله تنساقي
رحلت والتبست أم القرى حلالاً
من السواد وضاقت كل آفاقي
تبكيك مكة يامن عشت تسكنها
تبكيك كعبتها من دمع أحداقي
تبكيك مكة والحجاج إن وفدوا
من كل فجٍ أتوا فيها وأعراقي
رحلت في كنف الرحمن رحلتكم
وطبت حيًا وميتًا أيها الراقي
وسقت للمجد ابنيكم وحق لهم
أن يفخروا فيك دومًا كل إشراقي
محمدٌ موؤل الأفضال أجمعها
ومصطفى آية في حسن أخلاقي
……………
حينما فقدت أبي واساني كل من عرفت وأنت منهم ولكنني اليوم أتساءل: من يعزيني في رحيلك؟