عندما نسمع بالقوة الناعمة يتبادر فورًا إلى الذهن اسم الأمريكي ووكيل وزارة الدفاع الدكتور جوزيف ناي، بالرغم من أنه ليس من ابتدعها، أو نادى بها، ولكنه أول من صاغها في نظرية مقنعة ومحكمة البناء، وهذا من القوة الثقافية الناعمة لأمريكا التي سوقتها وتلقفها العالم بأنها بدعة أمريكية خالصة، فقبل أن يعلن ناي عن نظريته ظهرت القوة الناعمة عبر التاريخ الإنساني من خلال انجذاب الناس إلى الأديان كدعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، عندما اعتنق الكثير من الناس الدين الإسلامي من خلال قوة الإقناع والتأثير (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)، وفي العصر القديم ظهرت القوة الناعمة من خلال كتابات الفلاسفة أمثال: كونفوشيو وسقراط، وما لا يعلمه الكثير أنَّ أول ظهور للنظرية كان عبر المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي – في نظريته الهيمنة الثقافية التي ذكرها في مؤلفه رسائل السجن، عندما أوضح أنَّ الهيمنة الرأسمالية تمت من خلال مؤسسات كالتعليم والكنيسة والإعلام فقد رسمت صورة حسنة بهدف السيطرة على عقول الناس وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الرأسمالي، وكانت فرنسا أول من استخدم هذا المفهوم من خلال التأثير الثقافي على شعوب مستعمراتها.
واليوم أصبحت القوة الناعمة للدول تقاس من خلال معايير متعددة؛ كثقافة المجتمع ومدى انتشارها إقليميًا وعالميًا عبر المنتج الأدبي الرفيع، وتعزيز جهود الترجمة للإبداعات الفكرية والفنية إلى لغات العالم، أو من خلال المشاركات الرياضية –محمد صلاح نموذجًا– كما أن لتعليم حجر الزاوية، إذ يعد استقطاب الطلبة الأجانب من مختلف الدول عاملًا مهمًا يسهم في تعزيز القوة الناعمة للدول، بالإضافة إلى وجود أنموذج اقتصادي محفز يجذب الدول لإقامة علاقات شراكة واتفاقيات متنوعة، ولا ننسى وجود إعلام ذو رؤية واضحة ورسالة يسعى إلى تحقيقها من أهم المؤشرات على فعالية القوة الناعمة لأي دولة.
إذ لم يعد السؤال في هذه الأيام بين المختصين حول مدى تأثير العلاقات الدولية المعاصرة على الإعلام مقبولاً، والصواب طرح السؤال بشكل مقلوب عن تأثير الإعلام على العلاقات الدولية المعاصرة، وهذا ما يدفعنا للقول بأن قوة الدول العظمى لم تعد تقاس بالاقتصاد وبالسلاح فحسب، بل صار للتفوق عناوين أخرى ومجالات مختلفة، وأصبح الاتصال والإعلام من الأعمدة الرئيسة لقياس قوة الدول وتقدمها، وقدرتها على نقل ثقافتها وتوطينها وكسب ولاءات خارج الحدود بحسب ما تمتلكه من استراتيجية إعلامية عابرة للحدود، وقادرة للترويج والدعاية لمن يمتلكها أو يمولها.
فالإعلام أحد الركائز المهمة التي تعتم عليها الدول في تنفيذ سياساتها، مما دفع الحكومات للجوء إلى مختلف الوسائل الإعلامية من أجل تحقيق غاياتها والترويج لنفسها، خصوصًا في هذه الأيام التي أصبحت فيه البندقية من أدوات الماضي، واتجه العالم المتحضر الطامح لبناء حاضره، والتخطيط لمستقبله، بتفعيل عوامل الجذب الناعمة والتي تحظى بقبول إنساني عالمي، من خلال تقارب العالم وانفتاحه على بعضه عبر ثورة الاتصالات التي قربت البعيد، وسهلت التواصل والتعريف بحضارات الشعوب والدول.
ونحن نملك الكثير من المقومات لبناء أذرع ناعمة، قوية التأثير، المهم أن تتكامل الجهود، وتعمل بخطط تراكمية وواضحة ومستمرة، لأننا أحوج ما نكون لاستثمار قوتنا الناعمة اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب ما لحق صورتنا من إضرار متعمد من قبل جهات ودول متعددة، رفده تقصيرنا في تعريف العالم بحقيقتنا الناصعة، وخدماتنا الإنسانية للعالم، وليس آخرها الصين إحدى القوى العظمى سياسيًا، واقتصاديًا، فما تملكه السعودية من عناصر القوة الناعمة يمثل رصيدًا كبيرًا ومخزونًا مهمًا لم يستثمر بعد، ويحتاج لبناء استراتيجية شاملة ومنظومة عمل تشترك في صياغتها أعلى المؤسسات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإعلامية، والدينية.
وهذا يتطلب العمل الجاد وفق رؤية إعلامية تعتمد على روح المبادرة وليس ردة الفعل، بما ينسجم مع رؤية المملكة الشاملة لمختلف المجالات، ولعل صدور الأوامر الملكية الكريمة بالأمس القريب تصب في هذا الاتجاه، ومما يبشر بالخير حديث معالي الدكتور ماجد القصبي وزير التجارة، ووزير الإعلام المكلف في منتدى الإعلام السعودي، قبل شهرين حول أهمية الإعلام الوطني ودوره الاستراتيجي في رؤية السعودية 2030، وعدم قدرتنا على تسويق أنفسنا.
وقفة:
“المعارك لا يمكن أن تُربَح فقط في ميادين القتال، وإن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تكسب قصته في الإعلام“.