د. خالد محمد باطرفي

”تحديث“ الإعلام و”توجيه“ الخطاب

القوة الناعمة ليست أقل تأثيرًا من القوة الصلبة، سلطة الثقافة، في الواقع، هي أكثر فعالية من سلطة العسكر. عصفت ”هوليود“ الأمريكية بثقافة العالم القديم، وسرقت عقول حضارات عمرها آلاف السنين. وعلى مدى أكثر من قرن، سيطرت إذاعة BBC على الأثير، ثم حكم تلفزيون CNN الفضائي إعلام النصف الثاني من القرن الماضي. واليوم، اتسعت دائرة المنافسة الدولية والتقنية، لتشمل محطات فضائية مدعومة من حكومات وتجارية، وسمحت التقنية الحديثة لوسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر لكل سكان الأرض بإيصال الخبر والرأي والمعلومة في أجزاء من الثانية إلى أقاصي العالم، بأقل تكلفة وأدنى رقابة.

السكوت لغة، وبعض الصمت إجابة. إلا أننا في مرحلة تتطلب منّا الكثير من الكلام والقليل من التواضع المتواري. فخصومنا، أيها السادة، يملأون الدنيا ضجيجًا، والناس ينتظرون منّا ردًا وتوضيحًا.

صحيح أن بعض المواقف تتطلب أن نترك للعمل مهمة الحديث، ونترفع عن المهاترات والمزايدات. ولكن هذا لا يعفينا من مخاطبة الجماهير بلغة يغلب فيها المنطق والمعلومة والحقائق، وبشفافية توصل رسالتنا إليها بدون مبالغة أو سفسطائية أو لغة هابطة.

ووسائل الإعلام والتواصل اللحظية، تجعل من التأني بطأ وتأخيرًا يفقدك ميزة المبادرة، وتسمح للخصم بالوصول أولًا ليضعك في قفص الاتهام والدفاع. وبينما ترد على تهمة يكون قد كال لك المزيد من التهم. والصمت في هذه الحالة شبهة الاعتراف.

قنوات ”الجزيرة“ المتعددة (العامة والمباشرة والوثائقية والإنجليزية) كانت سبّاقة على المسرح، واستطاعت أن تتفرد بالعقل العربي سنوات طويلة قبل أن تأتي ”العربية“ و“الحدث“ و“سكاي نيوز“ لتوازن المشهد، وتتيح لهذا العقل لأول مرة أصوات مكافئة في المهنية ومختلفة في المنطلق والهدف. وهكذا منذ ”صوت العرب“ من القاهرة، والنسخة العربية من بي بي سي لندن، ومونت كارلو الفرنسية، تعددت وسائل الاطلاع العربية.

أما في الإعلام المطبوع، فقد تقدمت ”الشرق الأوسط“ و“الحياة“ على غيرها من الصحف العربية، بعد أن أفل نجم صحف بارزة كالأهرام المصرية والنهار اللبنانية، ولحقت قطر بالركب مؤخرًا بصحف تملكها في لندن، كالقدس العربي والخليج الجديد والعربي الجديد، إلا أنها لم تحظَ بالانتشار والقبول في الحواضر العربية. وخسرت جمهورًا واسعًا عندما حذت حذو الجزيرة في التغطية المحلية القطرية بعد أن تباعدت عنها في السابق، وتركتها للصحافة والقنوات المحلية، لكي تتظاهر بأنها صوت العرب المحايد.

الخريف العربي“ فضح الانتماءات والولاءات، وضرب المهنية المحايدة وشعارات ك“منبر من لا منبر له“ و“الرأي والرأي الآخر“ في مقتل، فعاد الإعلام العربي لسابق عهده من التحيز للاتجاه وسياسة الملاك.

ونحن اليوم نواجه حملة دعائية شرسة من إعلام المحور. وفي الوقت الذي تطلق فيه إيران عشرات القنوات باللغة العربية، وتحرص الجزيرة على الوصول إلى المستمع الدولي من خلال نسختها الإنجليزية، ابتعدت قنواتنا عن اللغات الأجنبية التي نحتاجها للوصول إلى الداخل والمهاجر الإيراني، وشعوب الأرض المقيمة بيننا أو في بلدانها. وعدا قنوات محلية هي نسخة مترجمة لقنواتنا الرسمية وبعض الصحف بالإنجليزية أو الأردو في بعض دول الخليج، لم نبذل الجهد في الوصول إعلاميًا إلى الغير لنقدم وجهة نظرنا، ونظهر ما وصلنا إليه من تقدم ونغير الصورة النمطية عنا. وهو ما يحتاجه الإعلام المعادي للاستفراد بالجمهور المستهدف.

أدرك أن الفارق بيننا وبين إعلام المحور هو تبني الدول والأحزاب ودعمها المباشر لوسائل إعلامهم، مقابل تسيد الإعلام التجاري عندنا. ومن الصعب إقناع شركة بتقديم خدمة لن يدعمها الإعلان إذا لم يكن هناك دعم من وزارات الإعلام الحكومية. ولا أرى بأسًا من حصولها على هذا الدعم بتقديم التسهيلات والمساهمة في النفقات وتوجيه إعلانات الشركات الحكومية إليها. فالهدف سامٍ ونبيل، وهو توفير المعلومة وتصحيح المفاهيم وتفنيد الادعاءات ضدنا.

وكنتيجة لهذا الغياب استطاع الإعلام المعادي تحقيق اختراق دولي وتأثير لا ينكر على المنظمات الحقوقية والأممية والحكومات والبرلمانات. ووجه أصابع الاتهام والنقد بعيدًا عن ممارساته القمعية وجرائمه الإنسانية لتتفرغ لنقدنا وتقريعنا بناء على معلومات إعلامية عبر هذه القنوات ومن أجهزة الدعاية المعادية. ولنجد أنفسنا نخاطب العالم من منصات الدفاع بدلًا من المبادرة، ونخسر بذلك مساحة لا يُستهان بها من المصداقية.

المطلوب اليوم مراجعة للرؤية الإعلامية (أو غيابها) لتحتل مكانها الطبيعي في خطة التحول الوطني والرؤية السعودية، وأطر التعاون الخليجي، والتحالف العربي والإعلامي الإسلامي. وسواء كانت المنصات تجارية أو حكومية ينبغي أن تحدد لها أهداف واضحة، وآلية دقيقة، ودعم كاف. مع الأخذ بالاعتبار اختلاف المسرح والجمهور المحلي أو العربي عن غيره. فلا يصح أن نخاطب المتلقي الأوروبي والأمريكي والاسترالي، أو الصيني والأفريقي واللاتيني بنفس الأسلوب والمنطق، وبطريقة ثوب واحد بمقاس واحد يناسب الجميع. فلكل مقام مقال، ولكل ثقافة منطقها، وقد أمرنا أن نخاطب الناس بلغاتها وعلى قدر عقولها.

هذا مشروع ضخم، ومشواره طويل، ولكن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وأملنا كبير في وزير الإعلام الدكتور ماجد القصبي أن يجمع العقول والسواعد لإعداد الرؤية ثم الإشراف على تنفيذها، وأن يوجه بالتعاون مع وزارات الإعلام العربي الحليفة لتناغم الرؤى والخطط بيننا.

د. خالد محمد باطرفي

دكتوراه في الصحافة والعلوم السياسية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى