تحفل الساحة الثقافية بالكثير من الاتجاهات الفكرية والأدبية، مما يمنحها ميزة التعددية في طرح الرؤى والأفكار، وتداول الحوار بين عدد من الأطياف، والذي يفضي إلى تعدد وجهات النظر، والاختلاف فيها، مما يثري الساحة الثقافية، ويمنحها ميزةً رافدةً للشأن الثقافي، وتأخذه إلى أفق أرحب وأوسع، إلا أننا نجد أن هذه الساحة لا تخلو من الاختلاف الذي يتطور إلى خلاف حاد سرعان ما يتحول من القضية المختلف عليها إلى التراشق الشخصي الذي يبتعد عن الفكرة الأساسية، ويركز على شخصيات المتحاورين.
مثل هذا الأمر يقودنا إلى الحديث عن ظاهرة بدأت تنتشر في الساحة الثقافية، وهي ظاهرة التنمّر الثقافي؛ التي بدأت معالمها تتشكل بوضوح، وهذه الظاهرة تتخذ أشكالًا عدة سأذكر منها أمثلة على سبيل البيان؛ لا على سبيل الحصر والإحصاء؛ فمن أشكال التنمّر الثقافي قيام بعض المؤسسات الثقافية ومعارض الكتب بحصر الدعوات لحضور الفعاليات على فئة معينة تتكرر كل عام، وتتناسى وتغفل هذه المؤسسات الكثير من المثقفين والأدباء الذين قدموا لهذا الوطن الشيء الكثير، ولا تعرف إلا تلك الفئة التي تتكرر سنويًا؛ المحصورة لديها في قائمة من عدة سنوات لم تمتد إليها يد التحديث والتغيير، ولم تعلم تلك المؤسسات أنها تمارس شكلًا من أشكال التنمّر الثقافي شعرت أم لم تشعر!
وعلى مستوى الأفراد نجد أن المتحاورين عندما يختلفون على قضية أو أمر ما يجوز الاختلاف فيه، تبدأ قضية التصنيف ووصف الطرف الآخر بالانتماء لحزب معين أو تيار مخالف، وذلك دون تثبت أو روية وإنما من باب الانتصار للرأي بأي شكل من الأشكال؛ مثل ممارسة التصنيف الذي يعتبر آفة من آفات الحوار، حيث يعد شكلًا من أشكال التنمّر، هدفه إفحام الخصم، وإثبات وجهة النظر، ولو لم تكن صحيحة.
وإذا نظرنا إلى وسائل التواصل الاجتماعي نجد أن التنمر يمارس في بعضها، بشكل فردي أو جماعي، فعندما تنشأ مجموعة لهدف ثقافي أو أدبي نجد في بعضها ما يسمى بالشلليّة التي تتوافق فكريًا أو فنيًا في موضوع معين، تتكتل باستمرار لتتبنى ما يوافق فكرها وتوجهها، وإهمال كل ما يتعارض معها من أشخاص وموضوعات، بل ويصل الأمر إلى مصادرة الآراء التي تخالفها في شكل من أشكال التنمر الثقافي. إضافة إلى ما تنتهي إليه كثير من الحوارات على وسائل التواصل الاجتماعي من حذف وحظر وإلغاء صداقة…
إن قبول الرأي الآخر مظهر من مظاهر التحضر والرقي، وسعة الصدر للرأي المخالف أمر حميد، وسلوك حسن، ومنقبة جليلة، مالم يمس ذلك الرأي ثوابتنا الدينية والوطنية والأخلاقية.
إن علاج ظاهرة التنمر الثقافي لا ينبغي أن يخضع لأنظمة ولوائح؛ فهذا غير ممكن إلا فيما يخص المؤسسات الثقافية والأدبية، وما سوى ذلك فينبغي علينا جميعًا أن نتحاور ونلتمس الأعذار، ونتذكر أن ما أراه صوابًا قد يكون خاطئًا في نظر الآخرين، “وكلٌ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب القبر الشريف صلى الله عليه وسلم” ومع وجود بعض مظاهر التنمر في ساحتنا الثقافية إلا أن فيها مثقفين ومثقفات على قدر كبير من الوعي والرقي ما يجعلنا نستبشر بمستقبل مشرق بإذن الله.
تشخيص دقيق لفيرزسات يفترض ان يكون المجتمع الثقافي قد اكتسب مناعة صدها، لكن للأسف انها أصبحت لديه من الحالات المزمنة.