المقالات

أيام في العُلا…

عروس الجبال ولؤلؤة الشمال/ عاصمة الحضارات

أولاً:

مدخل وتمهيد:

(1/1) “إلى أرض (العلا) يممت وجهي

                         وعانقت الشـــموس العاليــــــــــات

   سكبت لها دموع الفخر حبراً

                         على نــــــور النجــــوم الســــافرات

  وغنَّت في فـمي أشــــعار حــبٍّ

                         طيورُ الشوق من أعلى السراة

  سأهديها لأحبـــــابٍ كـــــــــــــــــــــــــرامٍ

                        ذوي التعليـــم أهل المكرمـــــــــــات

*    *    *

(2/1) بهذه الرباعية الشعرية صافحت عيناي كثبان (العلا) وجبالها الشامخة، وتخيلها الممتد بمحاذاتها في منظر رباني بديع “سبحان من شكَّله”. منظر يأسر العين، ويريح الخواطر، ويحفز على التباهي بأن في أرضنا السعودية مثل هذا الجمال.. وهذا التاريخ.. وهذا البهاء!!

كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصراً عندما وصلناها بصحبة الرفيقين الدكتور سعد الرفاعي والأستاذ أحمد النزاوي، في رحلة تربوية وشعرية وسياحية التقينا فيها رجال التعليم في محافظة العلا عبر منشطين رئيسين.. وفعاليات ثقافية متنوعة.

  كان الهدف المرسوم لنا أن نشارك في فعاليات الملتقى الثقافي للفنون والمهن الذي تنظمه إدارة النشاط الطلابي من خلال: المحاضرة التربوية تحت عنوان: (تعلمت من التعليم/ خواطر قيادية عبر أكثر من ثلاثة عقود)، صباح يوم الأربعاء 14/4/1441هـ. والأمسية الشعرية في مساء اليوم نفسه بحضور ومشاركة جمع كبير من منسوبي التعليم بالمحافظة. ولكن الهدف تشعب إلى رحلة سياحية، ولقاءات تعارفية، وزيارات متحفية امتدت ثلاثة أيام بلياليها.

ثانياً: الرحلة ومساراتها:

(1/2) واستعداداً لهذه المسيرة المباركة، تقدمت زميليَّ، فوصلت المدينة النبوية قبلهما عصيرة الأحد 11/4/1441هـ، وتشرفت بالسلام على المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وعلى صاحبيه (رضي الله عنهما).

وبعد العشاء أتيحت لي الفرصة للمشاركة في أمسية أدبية في نادي المدينة المنورة الأدبي بدعوة من أخي المفضال الأديب القاص صالح الحسيني وكانت محاضرة سينمائية عن الأفلام القصيرة في صالون السقيفة بالنادي. وقد قدمها الشاب المتألق المهتم بالفضاء السينمائي والشاعر علي جدعاني.

وطوال يوم الاثنين 12/4/1441هـ قضيته في حرم الرسول صائماً وقارئاً وتناولت طعام الإفطار على موائد الرحمن في (الحصوة) مع ثلة من زوار المسجد النبوي، والحمد لله.

(2/2) ومن مدينة المصطفى (صلى الله عليه سولم) طيبة الطيبة/ المدينة المنورة/ مأرز الإيمان كانت انطلاقتنا المباركة حيث وصل رفيقا المسيرة من ينبع الخير والجمال حوالي الساعة العاشرة صباح الثلاثاء 13/4/1441هـ الموافق 10 ديسمبر 2019م حيث مررنا في طريقنا إلى خيبر بالعديد من القرى والمراكز وهي: الصلصلة والثمد والمليليح وشجوى والبوير والسليلة. وقد توقف صديقي الدكتور سعد عند اسمي الصلصلة والمليليح وهذه الحروف المتكررة في اسم واحد معللاً ذلك بالتواشج اللفظي وإعطاء المعاني الجمالية للمسميات.

كما أعجبني المدخل/ البوابة التي اختارتها البلدية لقرية (الصلصلة) التي تحمل المسمى بشكل فنِّي وجاذب من الجهتين (انظر الصورة في النت).

ثم اتخذنا الطريق الموصل لمحافظة خيبر التاريخية للوقوف عند آثارها وتذكر غزوتها الشهيرة أيام النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكان لنا ما أردنا حيث شاهدنا الموقع الأثري المعروف بـ (قصر مرحب) والمزارع الخيبرية والقرية التراثية القديمة التي هجرها أهلها وانتقلوا للمخططات الحديثة.

هنا نشير إلى حاجة هذه المنطقة الأثارية إلى جهود هيئة السياحة والتراث لترميم القرية القديمة والحصن الشهير والاهتمام بالمزارع المجاورة لتكون معلماً حضارياً جاذباً للسياح داخلياً وخارجياً. أعجبنا أحد الزائرين من الإخوة الباكستانيين مع عائلته وقف بسيارته يسألنا عن هذه الآثار فحدثناه بما نعرف وكان المفروض أن يجد الأدلاء السياحيين الذين يأخذونه في جولةسياحية /دعوية/ إسلامية/ تعريفية بهذا الموقع ودوره في تاريخنا الإسلامي؟!

*    *    *

(3/2) ألا ليــــت شـــعــري هـل بـــــلاد        تساوي (بالعلا) بعض الصفات

      بـــــــلاد قـــــــد حبــــــاها الله إرثــــــــاً        حضارياً تتنامى في حضــــــــارات

    (عروس للجبال) تشع ضوءاً        (معينيـاً) و(نبطـــي) الســـــــــــــــــــمات

    حضــــــارات توالـــت من قديــــــم        فما (النيلين) أو أرض (الفرات)؟؟

مدينة تدهشك بتاريخها المتقادم والحضارات المتنامية على أرضها والتي سادت ثم بادت مثل حضارة الديدانين (في القرن السادس ق.م وحتى القرن الخامس ق.م). وحضارة اللحيانين ما بين القرن (الخامس ق.م وحتى القرن الثالث ق.م). وحضارة المعينين ثم الأنباط. ثم جاءت الحضارة الإسلامة فصبغتها بهذه الصفة حتى يوم الدين إن شاء الله.

وتدهشك أيضاً بتاريخها المعاصر فما إن تطأ قدماك أرضها عبر المدخل الجنوبي حتى تبلغ الدهشة منتهاها، بجمالها المتنوع فعن يمينك سلسلة الجبال وتشكيلاتها الجمالية وتكويناتها الباذخة والتي تحيط بالعلا إحاطة السوار بالمعصم وبين يديها مزارع النخيل الممتدة على طول البصر وتمتزح بتراكمات المنازل القديمة منذ مئات السنين كما تحيط الأسورة بمعصم الحسناء كما يصفها مشعل السديري الكاتب العكاظي سابقاً!! -.

وعن يسارك ترى الامتداد العمراني والمخططات السكنية وعبرها الشوارع الفسيحة والعمارات الأنيقة التي توصلك إلى (الديرة) القرية القديمة والمدينة الأحدث نسبياً.

جمال يسبي النظر، ويمتع الروح والنفس فلا تملك إلا أن تردد مع شاعر العلا عبدالرحمن بريكيت:

تيهــــــــــــي (علانا) بالدلال وغــــــــردي      فالــــــــــــدل والإغــــــراء قد حـــلاَّك

سبحان من وضع الجمال بأرضك      ومن المفاتن في الدنا أعطاك

*    *    *

(4/2) زرت العلا قبل ثنتي عشرة سنة تقريباً عام 1429هـ وكتبت عنها ما أستشهد به هنا: “العلا عروس الجبال ولؤلؤة الشمال أرض الخصوبة والنخيل والجمال وحاضنة الآثار الضاربة عميقاً في الحضارة الإنسانية مر عليها التاريخ بكل مراحله. منذ دخولك إليها يشدك منظر الجبال وتشكيلاتها الفنية التي لادخل ليد الإنسان فيها، العديد من الصخور التي تشكلت في نماذج إبداعية لافتة صنعتها القدرة الإلهية في صور رائعة أخاذة.

عندما تشرف على مدينة العلا من حرة عويرض تشاهد جمال الطبيعة وروعتها، تشاهد الجبال والوديان والمنازل الحديثة البيضاء ومزارع النخيل التي تتعانق مع الجبال، المدينة الإسلامية القديمة الأثرية بجميع آثارها وأطلالها. كل ذلك يشعرك بتناغم جمالي يأسرك حد الدهشة ويرقى بنفسك وروحك إلى مدارج الإلهام والإبداع والتصوير الخيالي فتسيح في ملكوت الله متأملاً وشاكراً أن منحك الله هذه الفرصة لزيارة هذه الطبيعة الساحرة التي مر عليها التاريخ وأبقى بصماته شاهدة ومعبرة”.

وبالتأكيد فقد اختلفت الصورة فلازال جمال الطبيعة والمكونات الزراعية وروعة الجبال والصخور وتكويناتها ولكن التحديث العمراني والمخططات السكنية الجديدة والممتدة شمالاً وجنوباً يعطي طابع العصرنة ويشير إلى الطفرة المادية التي استفاد منها أبناء العلا.

كان فندق آراك هو الوحيد الذي ينتظر الزوار ويحتفي بهم فندقياً.. ولكن الفندق اليوم أصبح من التراث والتاريخ إذ حلَّت فيه الهيئة الملكية للعلا. وبدل آراك أصبحنا نشاهد الكثير من الفنادق والوحدات السكنية المفروشة التي يملكها المواطنون!!

انتشرت المطاعم التراثية، والأسواق المركزية، والاستراحات العائلية والمزارع والمباني التعليمية والأكاديمية وهذا دلالة على التنامي والتطور الذي شهدته العلا منذ تلك الفترة 1429هـ وحتى اليوم 1441هـ.

*    *    *

(5/2) هذه العلا المدينة والحضارة والشواهد التاريخية. لكن العلا وإنسانها هو العنصر الذي نفاخر به وهو الذي يشرف على بناء هذا الحاضر السعيد والمستقبل المنشود في ظل رؤية المملكة 2030 وتطلعات عرابها الشاب ولي العهد حفظه الله.

إنسان العلا هو ذلك الذي استقبلنا بالود والترحاب وكل معاني المحبة والتقدير. يمثلهم ثلة من رجالات التعليم وعلى رأسهم التربوي العريق الأستاذ إبراهيم عبدالله القاضي المدير العام للتربية والتعليم الذي حظينا بدعوته لهذه الزيارة. ورحب بنا حال وصولنا واستقبلنا وأضفى علينا سوابغ الأدب والحفاوة والقيم والاحترام وأشعرنا حقيقة بقول الشاعر:

يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا    نحن الضيوف وأنت رب المنزل

في حوالي الساعة الخامسة عصراً كان في استقبالنا عند دخول العلا.. ودعانا لمنزله العامر لتناول القهوة استعداداً للعشاء المعد في أحد المطاعم التراثية الجديدة وأشرف بنفسه حفظه الله على النزل المعد للسكن والإقامة وكل ذلك بروح أخوية وكرم حاتمي/ علاوي وآفاق تربوية وإنسانية شعرنا بمثالية هذا الرجل لأنه تجسيد حي لكل رجالات التعليم، بل كل المجتمع العلاوي. ولهذا قلت فيهم:

رجال جاوزوا حد الثريا        لهم فضل على كل الجهات

وطوال ثلاثة أيام كان الأخ إبراهيم القاضي يرافقنا في كل موقع نزوره أو لقاء نجتمع فيه يعرفنا على هذا وذاك ويدلنا على المعالم الحضارية والتراثية في مدينته ومسقط رأسه العلا قديمها وحديثها تعرفنا على مساعديه الأستاذ عبدالله الصبحي المساعد للشؤون المدرسية، والأستاذ موسى الموسى المساعد للشؤون التعليمية وكلاهما من النماذج التربوية والقيادية المتفاعلة عطاءً وانتماءً وقدرة على الإدارة التحويلية والقيادة المنتجة.

تعرفنا على الأستاذ سلطان القنيدي الشاب النشط الفعال والمسؤول عن النشاط الثقافي والمبدع في فعالية (الملتقى الثقافي للفنون والمهن) المنشط المبتكر في تعليم العلا، والذي يحتوي على العديد من الفعاليات النوعية المتشجرة والمتنامية ما بين محاضرات وأمسيات شعرية وملتقى تدريبي ومهرجان للخبر والمخبوزات الشعبية وغيرها من الأنشطة والبرامج التثقيفية والمجتمعية، والذي سيدير أمسيتنا الشعرية.

كما تعرفنا على الشاب المثقف، والتربوي المتجدد الأستاذ صالح سليمان العنزي وسيكون شريكنا في إدارة الأصبوحة التربوية على مسرح إدارة التعليم.

وهكذا كان صباح يومنا الثاني، يوم الأربعاء 14/4، صباحا ممتلئابالحيوية والنشاط، والمعرفة التربوية حيث بدأناه بحفل الإفطار الشعبي في مبنى النشاط الطلابي وقد حضره مجموعة من التربويين القدامى أمثال الأستاذ عبدالرحمن مطير (أبو رائد)، صاحب المتحف الذي سنزوره هذا اليوم والأستاذ التربوي الشيخ صالح عبدالكريم الفريدي، من رواد التعليم الذين خدموا في السلك التربوي طوال ثلاثين عاماً أو يزيد متعه الله بالصحة والعافية. والعديد من الشخصيات التعليمية من مشرفين ومديرين ودارت بيننا النقاشات والذكريات والتعارف في حميمية فاتنة لا يتقنها إلا أبناء (العلا) ومنسوبي التعليم الأكارم.

كان إفطاراً ماتعاً، متعدد الأصناف والأنواع ومما لذ وطاب من المأكولات الشعبية التراثية، من إعداد البيوتات (العلاوية) تقطر شهداً وسمناً، وتزدان خبزاً وعصداً، وتتنوع حيسة ومصابيب وهفيتاً!!

*    *    *

ثالثاً: زيارات ومشاهدات:

(1/3) لم تنته مفاجآت الأكارم منسوبي التعليم وعلى رأسهم مديرهم الفاضل إبراهيم القاضي في هذا الصباح المفعم بالأنشطة والحيوية والفاعلية، فأخذنا في جولة حرة في المحافظة حيث زرنا المبنى الجديد لإدارة التعليم وتعرفنا على الزملاء منسوبي إدارة التدريب التربوي، وصعدنا إلى المطل الذي يشرف على مزارع النخيل وجبل الأسود ذو التشكيلات الصخرية الفانتازية، ومنه شاهدنا حرة عويرض، وجبل عكمة وقلعة موسى ا ابن نصير رضي الله عنه.

ومن المبنى الجديد للتعليم انطلقنا نحو الديرة (القرية الأم لأهل العلا) شاهدنا الجهود الحثيثة للهيئة الملكية بالعلا التي تعمل ليل نهار على تجهيز هذه القرية القديمة لاستقبال شتاء الطنطورة في موسمه الثاني. وللعلم فهذه (الديرة) إحدى المدن الإسلامية القديمة والتي تعود إلى القرن السابع الهجري ومنها فاس بالمغرب وطليطلة بأسبانيا ويقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بها وتوضأ في إحدى آبارها أو عيونها واختط مسجداً سمي فيما بعد بمسجد العظام!!

كما شاهدنا الطنطورة أو الساعة الشمسية التي حدثنا عنها مرافقنا سعادة مدير التعليم وأهدانا كتيباً توثيقياً عنها من إنجازات تعليم العلا ومن هذا الكتيب نقف على إحدى القصائد الشعرية التي تعرف بالطنطورة شعراً وهي من شعر محمد بن  عبدالله رشيد القاضي بعنوان (تحفة الأثر) يقول فيها:

طنطورة طافت بنا في منظر

                 سامي الرؤى ومشبعاً بهواها

تثري معانيها الجميلة بهجة

                 شماء قد حفت بنور سماها

….

طنطورتي ما أنت كوم حجارة

                 بل أنت علم في ثرى يهناها

قد حدد الأجداد نهج مسيرهم

                بالعدل إرساء بطول مداها

وفي هذه الطنطورة قلت شعراً:

وفي الطنطوره علم لا يضاهى

                     سرى في إثره علم السقات

وهانحن نختم جولتنا الصباحية الممتدة ما بين السابعة والنصف وحتى التاسعة والنصف بوصولنا إلى مسرح التعليم لالقاء المحاضرة التربوية المخطط لها ونلتقي بالأكارم رجالات التعليم وقياداته الحاضرين لهذه الأصبوحة التربوية والتعليمية  والتي كانت بعنوان: “تعلمت من التعليم خواطر قيادية وتربوية عبر أكثر من ثلاثة عقود” تقاسمنا طروحاتها ومقولاتها مع زميلي الدكتور سعد الرفاعي وأدارها الشاب الخلوق الأستاذ صالح بن سليمان العنزي. وفي جو تربوي خلاق، وحضور العديد من القيادات الإدارية والإشرافية والقيادات التربوية وقادة المدارس وطلابها الكبار من الجنسين الرجال والسيدات، وقد حظيت هذه المحاضرة بكثير من المداخلات والتعليقات، والطروحات التربوية المساندة التي تضيف كثيراً من التجارب والذكريات التعليمية والميدانية.

*    *    *

(2/3) وبعد استراحة قصيرة في مكتب المدير العام واللقاء بجملة من منسوبي التعليم وعلى رأسهم المربي القدير الأستاذ يوسف العرادي مستشار المدير العام والمسؤول الأول عن ملتقى الفنون والمهن. فله كل التحية والتقدير. والتعرف على المناشط المتميزة التي تقوم بها إدارة التعليم واستعدادهم للقاء المجلس التعليمي لمديري التعليم بمنطقة المدينة المنورة والذي يضم كلاً من مديري التعليم بمحافظة مهد الذهب، محافظة ينبع، محافظة العلا، وبرئاسة تعليم المدينة المنورة والذي سيعقد صباح الغد الخميس 15/4 توجهنا بعدها إلى طعام الغداء المعد خصيصاً لهذه المناسبة في منتزه الحدائق التراثية بحضور جمع كبير من مشرفي التعليم ووجهاء المحافظة والقيادات التربوية. وقد كان لقاءً ماتعاً لم يخل من بعض التعليقات الجانبية على المحاضرة التربوية والذكريات التعليمية.

وبعد هذا الكرم الحاتمي/ العلاوي، والجمال الأخلاقي لهذه القامات التعليمية جاء وقت الاستراحة، فعدنا إلى المنزل لأخذ قسط من الراحة والتجهيز والاستعداد للفعاليات المخطط لها طوال فترة ما بعد المغرب والمساء إلى آخر الليل.

*    *    *

(3/3) وانطلقنا بعد مغرب هذا اليوم الأربعاء 14/4/1441هـ وكانت وجهتنا زيارة مبنى أول مدرسة ابتدائية تأسست في العلا عام 1349هـ والتي سميت آنذاك (مدرسة العلا) ثم تحول مسماها فيما بعد إلى (المدرسة السعودية) وحور اسمها أخيراً لتصبح (مدرسة عبدالرحمن بن عوف) وحتى الآن ولا ندري لم هذا التعديل؟!

كانت هذه المدرسة هي الانطلاقة التعليمية في العهد السعودي الزاهر وقبل ذلك كانت الكتاتيب ومدارس العهد التركي/ العثماني، ثم افتتحت مدرسة متوسطة عام 1376هـ وهي متوسطة موسى بن نصير وفي العام 1390هـ افتتحت أول مدرسة ثانوية، بينما سجل تعليم البنات أولى بداياته عام 1380هـ.

وعندما اقتربنا من وجهتنا، كان مرافقنا مدير التعليم حفظه الله يحدثنا عن هذه المدرسة وبداياتها التاريخية، وخريجيها ممن خدم التعليم في العلا وغيرها من محافظات المملكة. فهي المدرسة الأم والأساس التي بثت التنوير والتعليم في مدينة العلا.

دخلنا المدرسة واستقبلنا أحد معلمي التربية الفنية، الأستاذ بدر مسعد العرفي الجهني، الذي كان يشرف على التأهيل الفني لهذا المبنى الحضاري العظيم وتحويله إلى متحف تعليمي يوثق المراحل التعليمية التي مرت بها العلا، وأدخلنا إلى قاعة المستودع التعليمي الذي يحوي أضابير من الوثائق التعليمية والسجلات المدرسية، والشهادات القيمة القديمة والتي ستكون أول العناصر المتحفية التي يعملون على تجهيزها في الأيام القادمة.

كما يجهزون الموقع وخاصة الفناء والملاعب الرياضية لاستقبال مهرجان الخبز والمأكولات الشعبية الذي ستبدأ فعالياته غداً الخميس 15/4 بمشيئة الله كما يقول مرافقنا سعادة مدير التعليم إبراهيم القاضي حفظه الله.

ويعتبر هذا المبنى من النماذج الأولية للمباني المدرسية الحكومية التي تتخذ من الحرف (ل) شكلاً جمالياً/ هندسياً وتتوزع فصوله الدراسية على ممر طويل من دورين/ طابقين، مع قاعة المسرح، والغرف الإدارية والخدماتية، وفي الخارج نجد الملاعب الرياضية والمصلى/ المسجد والفناء المفتوح2).

*    *    *

(4/3) وفي بادرة سياحية/ تربوية يرتبون لنا جماعة التعليم بمدينة العلا زيارة رائعة للمتحف التراثي/ الشعبي المعروف بـ (متحف أبو رائد للتراث) وصاحبه الأستاذ عبدالرحمن بن محمد بن مطير الذي خدم التعليم منذ العام 1406هـ حينما تخرج من جامعة الملك سعود في قسم التاريخ وعين معلماً في إحدى المدارس الابتدائية وترقى في المراحل التعليمية والوظائف القيادية حتى أصبح مشرفاً للإدارة المدرسية ثم مشرفاً بقسم أمانة التعليم في إدارة تعليم العلا، ثم تقاعد عن العمل ليتفرغ لهذه الهواية المميزة للتراث الشعبي والمحافظة عليه.

ويعتبر هذا المتحف، أول متحف شعبي مسجل بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالعلا، والذي بدأت هوايته منذ 45 عاماً أو يزيد، وتم تأسيس هذا المتحف منذ ثمانية عشر عاماً أي في العام 1423هـ وسجل في هيئة السياحة عام 1431هـ كما يقول عن نفسه في إحدى لقاءاته الإعلامية2).

وصلنا إلى المتحف وكان في استقبالنا صاحبه الكريم بروحه العلاوية، وانتمائه التربوي، مرحباً وشاكراً هذه الزيارة الداعمة والمحفزة، وقمنا بجولة سريعة قبل تناول وجبة علاوية شعبية خفيفة لطيفة. ومنه عرفنا أن المتحف يحتوي على عدة أقسام/ قاعات، فقاعة للأسلحة من سيوف وبنادق ورماح وخناجر، وقاعات للعملات ووسائل الإعلام، وأواني الطبخ والزراعة، والملابس والحلي النسائية وأدوات القهوة وغيرها وكل ذلك في تنظيم رائع حيث خصص الدور الأرضي/ القبو بكامل مساحة الفيلا التي يسكنها لهذا المتحف الذي يضم أكثر من 3000 قطعة تراثية نادرة وقديمة تمثل تراث العلا ومخزونها التاريخي من مقتنيات أثرية وتراثية.\

تحية من الأعماق لهذا المؤرخ المولع بالآثار والحضارة، وتحية لهذا الوعي التراثي الذي جعله ينفق ماله ووقته وجهده ليكون رائداً (علاوياً) في هذا المجال، ويفتح داره ومتحفه ليكون مزاراً تراثياً ومنصة تثقيفية حضارية لكل من يزور (العلا).

وبعد هذه الجولة السريعة والمفيدة غادرنا الموقع متجهين إلى إدارة التعليم ومسرحها العامر والمكتظ بأهل الثقافة والتعليم والأدب والمحبين للشعر من رجالات التعليم ومنسوبيه من الجنسين، المنتظرين للأمسية الشعرية التي نحييها أنا/ يوسف العارف، وزميلي الدكتور سعد الرفاعي، والشاعرة فاطمة بنت محمد مطير وهي بالمناسبة أخت المربي القدير عبدالرحمن مطير صاحب المتحف المذكور أعلاه من شاعرات (العلا) ومن منسوبات التعليم فيها.

وقد سعدنا على المستوى الشخصي بهذه الأمسية الحافلة بكل جمال وارتياح وقراءة وحفظاً للمدونة الشعرية في ماضويتها وحداثتها المعاصرة.

لقد أدار الأمسية ذلك الشاب الخلوق والمثقف اللوذعي والشاعر الأنيق الأستاذ سلطان القنيدي المسؤول عن القسم الثقافي بالنشاط الطلابي والمشرف على فعالية (ملتقى الثقافة والمهن) الذي كانت هذه الأمسية الشعرية والأصبوحة التربوية ضمن فعالياته.

كانت الأمسية مساء الأربعاء 14/4، وأدارها أخونا سلطان بكل اقتدار وثقافة ومسؤولية، أحسن إدارة وقتها والثناء على شعرائها واستقبال المداخلات والتعليقات من الحضور الكريم وإعطائهم الفرصة والوقت للتعبير عن مشاعرهم، كما أجاد رئيس الجلسة ومديرها الأستاذ سلطان في الترحيب بالضيوف والحاضرين والتعليقات الشعرية فيما بين الشعراء المشاركين في لفتات ثقافية متقنة ودالة على حسه الثقافي والشعري، وتطلعاته الإبداعية.

كانت هذه الأمسية فرصة لنا أنا وزميلي الدكتور سعد الرفاعي لنكتشف هذه الجماليات الثقافية فيمن استضافونا وأكرمونا. وكم سعدنا بمشاركة الشاعرة المبدعة فاطمة بنت محمد والتي كانت بحق مفاجأة الأمسية وسفيرة الشعر النسائي في (العلا)، حيث أبدعت وأمتعت في نصوصها العمودية/ التراثية والتي ألقتها بكل إحساس شاعري، وإبداع أنثوي، مما جعل أخي الشاعر الدكتور سعد الرفاعي يثني على تجربتها الشعرية ويشجعها على الاستمرار والتجديد في بنية القصيدة التقليدية الخليجية، وتطوير تجربتها. وفي نهاية الأمسية أهديناها مجموعة من الدواوين الشعرية لعلها تستفيد منها!!

كما وزعنا مجموعة من الكتب التربوية والأدبية والدواوين الشعرية التي أحضرناها خصيصاً لهذه المناسبة على الزملاء الحاضرين من قادة التعليم والمشرفين والمشرفات والضيوف الأكارم.

وفي نهاية الأمسية، تعرفنا على الزميل محمد بن يوسف الجهني الذي كان مديراً لتعليم الكبار وتقاعد مؤخراً، والذي أصر علينا لزيارته في داره أو مزرعته، ووعدناه بذلك غداً يوم الخميس.

ثم انطلقنا إلى إحدى المطاعم التراثية (منتزه الحدائق التراثية) لتناول طعام العشاء مع ضيوف التعليم من الإدارات التعليمية المشاركين غداً في المجلس التعليمي لمنطقة المدينة المنورة.

وبهذه الموائد (العلاوية) أنهينا يوم الأربعاء 14/4 الذي كان يوماً ماتعاً، يوماً حافلاً بالمناشط والفعاليات والتعارفات، يوماً لا ينسى من أيام عمرنا أنا ورفيقي الرحلة حفظهما الله.

*    *    *

(5/3) وجاء الخميس 15/4 بعد ليلة (علاوية) بامتياز أشعرونا أهل العلا ورجالات التلعيم فيها بكل الحب والزمالة والأخوة بمعاني الكرم الحاتمي، كرم الضيف وحسن الوفادة والتفرغ لنا قولاً وعملاً.. ولذلك فمهما قيل في حقهم لا يوفيهم معشار ما قدموه لنا ولكن نتمثل مقولة من قال: “كروة سدير جزاكم الله خير”!! وأبيات من قصيدة ألقاها الدكتور سعد الرفاعي في الأمسية الشعرية يقول فيها:

عروس الحسن يا بنت الجبال       فمن يأتيـــك يومــــاً ما ســــلا

هنا التـاريـــخ يقــــــــرأ مســتعاداً       هنا التـاريــخ تشـــــهده المـــــلا

هنا أرض الكـــــرام لكل ضيف       تســـابق أهلها أهـــــلا هــــــلا

ومنذ الصباح الباكـــــر خرجنـــا (سعد الرفاعي، أحمد النزاوي، وأنا) في جولة صباحية نتعرف فيها على مالم نره من زوايا وخبايا (العلا) حتى يحين لقاء مضيفنا الذي دعانا مساء البارحة، وما هي إلا سويعات حتى قابلناه وسار بنا إلى مزرعته المعروفة بمزرعة الشيهانة، وهي مزرعة في مساحة من الأرض كبيرة، تقع في واد بين جبلين من جبال العلا المعروفة بجمالها وتشكيلاتها الصخرية، مزرعة تنتج الحمضيبات وخاصة الليمون الحلو، والبرتقال وبقية الفواكه والخضار. وقد أكرمنا مضيفنا بجولة سياحية في أرجاء المزرعة وأهدانا بعض إنتاجها عدنا بها شاكرين غانمين.

ثم استأذناه في الخروج للتجوال السياحي في المنطقة حتى يحين وقت الغداء المعد لنا ولضيوف المجلس التعليمي لمديري تعليم منطقة المدينة المنورة ومحافظاتها التعليمية، فكانت جولة صحراوية حيث عبرنا طريق العذيب/ حايل وشاهدنا التشكيلات الصخرية الإبداعية/ الربانية، وعدنا إلى موقع الهيئة الملكية وحرة عويرض ووقفنا على البلدة القديمة ومزارع النخيل المحيطة بمدينة العلامن جانبها الشرقي والجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي.

ثم انطلقنا بعد صلاة الظهر إلى الموقع المعد للاجتماع والغداء في الطريق المتجه نحو تبوك وحايل في مزرعة الجهني وبعد العصر توجهنا في جولة سياحية إلى مدائن صالح فزرنا القصر الفريد، وقصر النبت والديوان وخزان الماء الصخري، وكلها تشي بجماليات الماضي، وحضارة الأمم السابقة. فالواجهات الصخرية المنحوتة بكل إتقان وبأشكال هندسية ونقوش نبطية، والمقابر المنحوة في الجدران، والرسوم المجسمة للنسر والتيجان المزخرفة كل ذلك زادنا راحة وانسجاما أن بلادنا تملك هذا الإرث الحضاري والتاريخي وها قد بدأنا نستعيد ملامحه ونقدمه للباحثين  والسياح ضمن شتاء طنطورة السياحي في دورته الثانية والمتجددة إن شاء الله.

وقبل المغرب تحركنا إلى فعالية جديدة وهي مهرجان الخبز الشعبي المقام في مدرسة عبدالرحمن بن عوف الابتدائية، والذي تقيمه إدارة النشاط الطلابي ضمن فعاليات (الملتقى الثقافي للفنون والمهن). وقد كانت فعالية مبتكرة ونوعية ورائدة ومتميزة في نوعها وإخراجها والتعريف بها حيث شاهدنا مجموعة من النسوة والفتيات يقمن بخبز مخبوزاتهم بطريقة تقليدية، وتعرفنا على مسميات الخبز وتذوقنا من كل أنواعه فهذا خبز المصابيب، والقرصان، وخبز المجرفة، وخبز المسلوب، وخبز الطشاش، والصفلاحة!!

ثم واصلنا الفعاليات المسائية لهذا اليوم الخميس 15/4/1441هـ حيث الختام والوداع، فقمنا بزيارة منتجع صحاري على طريق (العلا حايل تبوك)، وهو أحد المشاريع الاستثمارية في العلا ويقع في منطقة صحراوية بين جبلين متميزين بتشكيلاتها الطبيعية الفاتنة وخيام فندقية وبرامج ترفيهية، ومثله منتجع شادن الذي رأيناه على بعد في طريقنا لمنتجع (صحاري)!!

هناك تناولنا طعام العشاء وتجولنا في معالم المنتجع حتى منتصف المساء، فعدنا إلى (العلا) وإلى نزلنا سالمين غانمين مستعدين للسفر والمغادرة صباح الغد الجمعة 16/4/1441هـ شاكرين لمضيفنا ورفاق دربه كل هذه الحفاوة والسياحة والمعارف الإضافية.

*    *    *

(6) أصبحنا وأصبح الملك لله، نحن اليوم صباح الجمعة والكل يستعد للإنطلاق عائدين إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي منها انطلقنا واليوم إليها سنعود وما هي إلا ساعات أربع ونحن أمام مسجد رسول الله نستعد لأداء صلاة الجمعة في رحاب المسجد النبوي الشريف.

  وهنا نودع أصحابنا رفاق الرحلة: الدكتور سعد الرفاعي الأستاذ أحمد النزاوي فيغادران إلى ينبع وأنا أتبعهما إلى جدة حاملاً في قلبي وعقلي ووجداني ذكرى عاطرة وأيام زاخرة بالعلم والثقافة والتربية، قائلاً في ذلك شعراً:

سلام الله يا أرضاً تسامت
إلى العليا.. تعلو في ثبات
إليك من (الحجاز) صفاء قول
له من (زمزم) أحلى هبات
ومن (جازان) أرض الشعر حقاً
قصيداً حرفه ماء الحياة
ومنِّي يا رفاق الدرب قولاً بديعاً (عارفيَّ) الذبذبات

والحمد لله رب العالمين

د. يوسف حسن العارف

جدة/ مساء الجمعة 20/1441هـ

د. يوسف العارف

شاعر وناقد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى