من المواقف التي لازلت أذكرها في بداية حياتي الوظيفية، وأضحك على ماحصل فيها من أحداث ومواقف وتراجيديا مؤلمة، وهو موضوع مقالتي اليوم؛ حيث كنت أعمل في بداية حياتي الوظيفية مع رئيس متفاهم، ويعاملنا جميعًا بمنتهى الود والاحترام والتقدير، وفجأة، وفي ليلة ليلاء كثُر فيها البلاء تم نقلي إلى مكتب حجز ومبيعات آخر كان قريبًا من سكني بناء على طلبي، وكانت هذه أحد الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها بدون أن أقصد نظرًا لتجربتي المحدودة في العمل؛ حيث كنت أظن وأعتقد أن الرؤساء جميعهم يشبّهون بعض، كلهم زي العسل، طيبين، حلوين، وداعمين، وافترضت أن لا مشكلة في الانتقال إلى مكتب جديد طالما أن الحياة كلها كما يقال وردي، ويادنيا وديني محل ماتودي كما كان يصورها خيالي البسيط الذي لم تقرُصَه وتصدمه الحياة بعد.
لكن مسلسل المعاناة بدأ واضحًا جليًا منذ اليوم الأول مع الرئيس الجديد فلقد كان صاحب شخصية غريبة عجيبة يتعامل بشكل عسكري، لا يتقبل النقاش أوامره لابد من تنفيذها بدون مناقشة.
وفي ذلك الزمن كان مشرف مكتب المبيعات هو مدير عام الشركة في نظري لا أعرف رئيسًا غيره ولا أحلم أن يراني أحدًا سواه.
كانت الشهور الأولى فيها معاناة حقيقية مع هذا الإنسان المتعجرف الذي كانت الإدارة. عنده بالشخط والنط والشك والشيل والحط، ويتفنن في إصدار الأوامر بطريقة مستفزة، وكانت الظروف تخدمه حتى الراتب كنت لابد أن أستلمه عن طريقه؛ حيث كانت الشيكات تأتي إليه بأسمائنا لتسليمها لنا، وكان يقول لي: (شعرك طويل روح قص شعرك قبل أن تستلم الشيك)، ولم يكن لدي أي خيار سوى الرضوخ لهذه الأوامر التي كنت أعتبرها ظالمة مجحفة.
لكن الله لا يرضى بالظلم؛ حيث حدث لي معه موقف قلب عليه الطاولة رأسًا على عقب، وأنقذني الله من جبروته وبطشه إلى الأبد وإليكم القصة التي بسببها انطلقت إلى عالم الحرية والعمل في مواقع أخرى ومع رؤساء رائعين.
حضرت إلى مكتبه سعيدًا فرحًا، أخبره بأن موعد زواجي سيكون بعد شهرين في بداية شهر شعبان، وأرغب في إجازة لمدة شهر لقضاء شهر العسل برفقة شريكة الحياة فقال لي طيب لما يقرب الوقت كلمني، ولم أكن أعلم بنواياه السيئة وماذا يخطط له من مفاجأة غير سارة، وقبل موعد الزواج بشهر أتيت له مرة أخرى ومعي كرت الدعوة للزواج، وقلت له يسرني دعوتك لزواجي، وهذا طلب الإجازة لكي تعتمدها بناء على ما أخبرتك به مسبقًا.
للأسف لم يقل لي حتى كلمة مبروك، بل نظر إلي في صلف وغرور وانتفض كالأسد، وقال قولته الشهيرة التي كسرت قلبي: (انسى أي إجازة في الصيف) فقط ٣ أيام زواج وتباشر العمل محتاج لك.
وأخذت أتمم مع نفسي خائفًا أترقب، محتاج لي كيف يا سيدي ؟؟ ماذا تقول أنا محتاج أشوف نفسي مرة في العمر أرجوك سيبني أعيش بلاش تطفيش، وحاولت معه بكل وسيلة ممكنة، أخبرته أني مسافر إلى تونس الخضراء والشواطئ البهية الزرقاء، وأظهرت له صورة الحجز والفندق الرائع على شواطئ مدينة سوسة التي ألهمت الأدباء والشعراء والمكتب السياحي التونسي الذي دفعت له تكاليف البرنامج بكرم وسخاء.
لكنه أبى، وتكبّر وقسى وتجبّر، ولم يحرك قيد أنملة، وأصر على موقفه بجلف وصفاقة وحماقة وبرود عجيب.
في تلك اللحظة الفارقة من الزمن شعرت أنه آن الآوان أن أطالب بأبسط حقوقي، وهي الحصول على إجازة العمر.
خرجت من مكتبه، وأنا في حيرة من أمري، وأردد مع نفسي سبحانك ربي وأصابني التوتر والقلق والمعاناة والأرق، وحُرقة داخلية تحرقني حرقًا، ويتصبب مني العرق، ولم أجد نفسي إلا وأنا أرفع يدي إلى السماء، وأقول يارب انصرني على من ظلمني، ويريد أن يحرمني من زواج بالحب قد اغتسل ممزوج مخلوط بشهر العسل، يارب سَخَّر له من هو أقوى منه يأخذ لي حقي الضائع معه ولا تجعله يقتل فرحتي هذا الرجل.
وسبحان الله العلي القدير وفي نفس الليلة التقيت بأخ زوجتي، وسردت عليه ماحصل معي مع هذا الرئيس، وأطلب منه النصيحة والرأي السديد،
فسألني من رئيسك فذكرت له اسمه، ثم أردف قائلًا، ومن هو رئيس رئيسك فقلت له فلان قال لي ومن هو (السيد وذكر لي اسم شخصية كبيرة في الخطوط السعودية هو الرئيس الأعلى)، قلت له هذا رئيسهم كلهم هذا الرجل الأول في المنطقة.
فابتسم، وقال لي إذًا لا عليك سيفرجها الله من عنده إن شاء الله.
وطلب مني أن أرافقه في الغد إلى تلك الشخصية المرموقة، وأقص عليه ماحصل معي بدون زيادة أو نقصان.
وفي الصباح الباكر لبست ملابس العريس وعطر اشتريته مخصوص من باريس، ودخلت برفقة أخ زوجتي إلى مكتب تلك الشخصية وأنا متلعثم، متوجِلّ، متردد، شايل هموم الدنيا وأقول ماذا لو لم ينصفني، ماذا لو أحالني إليه من جديد ماذا ماذا ماذا، وفجأة صحوت على صوته وهو يقول لي تفضل يابني قل ماهي مشكلتك؟
ولا أعرف كيف جرت الكلمات على لساني في صوت متهدج مخنوق موجوع من ألم المعاناة، وقسوة وجبروت المعاملة التي تحولت إلى نفور ومعاداة، وقصصت عليه حكايتي ومظلمتي وقلت له أرجوك يا سيدي بدنا نفرح ونتزوج قبل العيد، وفي نهاية حديثي ناولته كرت الفرح الذي يوضح تاريخ الزواج؛ ليطلع على صدق كلامي.
ضحك الرجل الفاضل ورجع إلى الوراء قليلًا، وقال مبتسمًا: لكن الأغنية تقول بدنا نتزوج في العيد وليس قبله، يابني إن شاء الله حتتزوج وحنحضر فرحك إذا عزمتنا وحتسافر وحتأخذ الإجازة اللي تحتاجها وترجع مبسوط لعملك، ماحصل معك فيه إجحاف غير مقبول ولا نرضى به أبدًا.
ويالقوة هذا الرجل وحكمته وبعد نظرة؛ فلقد أمسك بقلمه وكتب على نفس كرت الزواج يعتمد منحه إجازة لمدة شهر من تاريخ الزواج، وينقل إلى مكتب مبيعات آخر عند عودته من الإجازة، وحدد اسم الفرع الذي طلب نقلي إليه.
قرأت ماكتبه وفي غمرة الفرح الذي انتابني لحظتها خفت أن أساله لماذا نقلتني من المكتب الحالي إلى مكتب آخر، ولكنه بادر بتوضيح الأمر بنفسه حين رآني مرتبكًا، وقال لي يابني أنا نقلتك من المكتب لأنك لن تستطيع أن تراجعني كلما واجهت مشكلة مع رئيسك، من الأفضل أن تبدأ مع رئيس جديد بعد عودتك فواضح أن هذا الرئيس لن يغفر لك ماقمت به من تجاوز وشكوى حتى لو كنت على حق.
ذهبت إلى المكتب الذي أعمل فيه متأخرًا، وسألني المشرف ليش تأخرت فقلت له كنت عند الأستاذ فلان وسلمته الكرت الذي عليه التوجيه من سعادته.
كان موقفًا لا يحسد عليه وأنا أشاهد الشخص الذي تفنن في
مضايقتي أشكالًا، وألوانًا يرضخ فورًا للتعليمات، ويطلب مني ورقة الإجازة ويعتمدها فورًا، ويسألني أنت من فين تعرفه، أنت ايش قلت له، أنت كان انتظرت شوية أنا كنت سوف أوافق بس أشوف الجدول، سبحان الله مغير الأحوال!!!
اليوم حين ألتقي ذلك الرئيس مصادفة نضحك سويًا حين أُذكّرهُ بقص الشعر وإجازة الزواج، وأقول له كنت ستحرمني من أجمل شهر في الحياة سامحك الله.
?ذكريات جميلة ومعالجة ذكية لموضوع شائك يحدث كثيرا بين الموظفين ورساءهم المعقدين ..
أعجبني كثيرا نضوج الفكرة. .وجمال الموقف الإنساني وعذوبته. .والقدرة المكتملة على التعبير الخالي من المبالغة. …وسرد أطراف الحديث دون أن تفقد المقالة اتصالها بتيار الحياة والواقع لتمنح القارئ متعة ودفقة أحاسيس جميلة وأمل وتفاؤل بأن الخير ينتصر. .ولو طال الزمن. .
العسل في هذه الحياة يتغير ويزداد حلاوة وتماسكا بغرة كل صبح نديّ..تتفتح البراعم به للأمل.. و تتناثر عطور الورد مع حبيبات الندى في السحر ويشرق بين ثناياه روحاً تخفي مابين السطور الحكمة والخبرة فتشاركنا آمالها أحلامها جمال لحظاتها وتتكلم بألسنتنا عن تلك المعاناة التي لابد قد اجتاحت منا الكثير وتاهت بين صفعات ايامها التعسف والتنكير و جثم الظلم بحكمٍ عسكري فرضها العمل وقوانينه وكأننا في جبهة عسكرية..
ونحن مازلت آمالنا شبابية وروحنا غضة ندية.. والهمة والإخلاص للعمل يسري بشراييننا بحنية
فالعمل نعمة انعمها الله علينا ليستخلفنا على هذه الأرض وجعل بكل لحظات عمرنا أجور مضاعفة اذا استكملنا بها سعاداتنا اليومية لنخلق بيئة عمل بروح سعيدة مخلصة منافسة..
تكرمنا بها وزارة العمل وحقوق الإنسان ويأتي أحيانا من يقتنصها منا عنوة دون ان يكون لهم الحق في ذلك…
حكم بليغة سردها الكاتب المبدع منها..
#كل قوي اشتد صوته الظالم هناك من أقوى منه.. فلا تشتد يااافرعون..
#الإجازات من حق الموظف ولن يطالها الا بجهود قدمها لأشهر وأعوام..
#الإخلاص هو مبدأ العمل.. فمهما كنت مخلصا سيؤيد الله من ينصرك لتحظى بالرضا..
#الخلق الحسن والتسامح والقلب الطيب كان شعاعا وهاجا في خاتمة المقالة جعلت أفئدتنا تغسل أحزاننا المتولدة عن الذكريات المشابهة وعن تلك العبرات التي سالت مع براكين الظلم التي يعاني منها أي موظف تعرض لظلم المدير وبالخصوص في مطلع الشباب وذروة المسؤوليات..
قوافل شكر للصحيفة وللكاتب المبدع الحكيم هذا الرذاذ المنعش الذي يوقد في القلوب سر المتابعة لكل منشوراتها..
في كل مره يفاجئنى كاتبنا بقصص نبحر معه بخيالنا في احداثها جميل جدا كيف انا الله اخذ بحقك ابو نواف ونصرك على مدير لم يتقي الله في من يعملون تحت امرته شكرا صحيفة مكة من اعماق القلب على استضافتكم لهذا الكانب الرائع ومايساركنى فيه من رذاذ العمر❣️