مع كل هذه التغييرات التي نشهدها في المملكة العربية السعودية، والتي سارت خلال السنوات البسيطة الماضية بخطى ثابتة وسريعة إلا أن بعض المشاريع والبرامج تستغرق وقت أكثر مما يلزم للتنفيذ. وفي زمن الكورونا كأن القدر أراد تسريع هذه التغييرات لتصل إلى ذروتها بين ليلة وضحاها.
فلو أخذنا نظرة سريعة على عالمنا لوجدنا أننا قبل الكورونا، كنا ندعو للتعليم الإلكتروني ونمشي فيه بخطى جيدة وبطيئة، فمنذ عام 2008م بدأ مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام والذي اعتبر وقتها نقلة نوعية في مسيرة التعليم بالمملكة العربية السعودية فهو مشروع نوعي يختلف عن مختلف المشاريع التعليمية التي نفذتها وزارة التعليم. من أهدافه:
1- تحسين البيئة التعليمية وتأهيلها وتهيئتها لإدماج التقنية والنموذج الرقمي للمنهج؛ لتكون بيئة الفصل والمدرسة بيئة محفزة للتعلّم من أجل تحقيق مستوى أعلى من التحصيل والتدريب.
2- دمج التقنية بالعملية التعليميّة باستخدام الحاسوب والقضاء على أمية الحاسب الآلي بين صفوف المعلمين والمعلمات.
3- تحقيق الرقمية في المناهج ودمج التقنية في التعليم.
4- تجهيز الفصول الدراسية بالمتطلبات التقنية التي تساعد في رفع مستوى بيئة التعليم والتعلم في جميع فصول مدارس الوزارة (بنين وبنات).
5- إنشاء المستودع الرقمي، وهو جهاز خادم (Server) في كل مدرسة مرتبط بأجهزة الحاسب في الفصول الدراسية يحتوي على الآتي: المناهج الدراسية بصورة رقمية- مستودع رقمي للكائنات التعليمية (Learning objects) لإمداد المعلم بما يحتاجه من عناصر لإعداد الدروس- و تطوير المحتوى الرقمي بصورة دورية.
وخلال 12 سنة لم تحقق الرؤية التعليمية بشكل كامل بل إن مشروع الملك عبد الله واجه العديد من المشاكل إما في المناهج، أو الكادر التعليمي، أو العقول البشرية، أو حتى في تعاقب الوزراء عليها كوزارة.
ولكن ماذا حدث بعد 12 سنة؟
في عام 2020م أُقر التعليم الإلكتروني عن بعد وأصبح الطلاب ملتصقين بأجهزتهم الذكية لا للعب أو المشاركة في السوشيال ميديا بل لتلقي المحاضرات والدروس وحل الواجبات وتنفيذ الاختبارات. في 2020 أجبرت الوزارة على تسريع تجهيز منصاتها الإلكترونية وتدشينها لمنع الطلاب من الذهاب للمدارس وارتبطت المدارس بأسماء الأنظمة مثل عين، شمس، كلاسيرا وغيرها من الأنظمة التعليمية الحكومية والخاصة. هذا هو حال التعليم اليوم (إلكتروني في إطلاق تجريبي). وهي خطوة يجب أن تكون بداية لعصر تعليمي جديد لا حل مؤقت بسبب الكورونا. ويجب الآن الوقوف على نقاط التحسين اللازمة لتطوير هذه المرحلة مثل: إعادة تأهيل المعلم والطالب؛ ليكون عضوًا في العالم الرقمي الجديد، توفير أجهزة ذكية لكل طالب لاستخدامها في مطالعة الدروس وحل الواجبات والتمارين… وغيرها من المشاكل التي قد تظهر لاحقًا.
ومثل وزارة التعليم مثل وزارة الموارد البشرية والتنمية الإجتماعية. فمنذ عام 2018 والوزارة تنادي بالعمل عن بعد ورصدت الميزانيات الضخمة لتفعيله.
“برنامج العمل عن بعد” هو أحد المبادرات الوطنية المهمة التي أطلقتها وزارة الموارد البشرية والتنمية الإجتماعية بهدف تجسير الفجوة بين أصحاب الأعمال والباحثين عنها؛ وذلك بموجب القرار الوزاري الصادر بتاريخ 12/2/1436 هـ. الموافق 5/12/2014. وتكمن مشكلة وزارة الموارد البشرية عند إطلاقها البرنامج أنها خصصت برنامج العمل عن بعد لفئات معينة: حيث جاء في القرار أنه برنامج يهدف إلى التوسع في توظيف الباحثات عن عمل المؤهلات والراغبات بالعمل في القطاع الخاص والأشخاص ذوي الإعاقة من الجنسين من خلال تفعيل أسلوب العمل عن بُعد كأحد أنظمة توظيف القوى العاملة الوطنية في منشآت القطاع الخاص. (فهي خصصت البرنامج للنساء، وذوي الاحتياجات الخاصة من الجنسين، وللقطاع الخاص فقط) ووضعت الأنظمة والقوانين لذلك.
وأقول هنا أنها مشكلة لأن الوزارة لم تنظر للبرنامج على أنه حل لجميع فئات المجتمع وليس النساء وذوي الاحتياجات الخاصة فقط. ولأنها قيدت التنفيذ بأنظمة قد لا تكون مرنة لأصحاب الأعمال خاصة الصغيرة والمتوسطة منها.
ولكن ماذا حدث بعد 6 سنوات؟
في عام 2020م أجبرت جميع القطاعات الحكومية والخاصة منها على تطبيق برنامج العمل عن بعد بعيدًا عن الأنظمة الموضوعة وبعيدًا عن التخصيص، كان لا بد أن ينظر له على أنه أحد حلول التوظيف دون تحديد أو تخصيص.. ويترك للجهة آلية التنفيذ بما لا يخل بحق الموظف أو يؤذيه، ولا بحق صاحب العمل.
في زمن الكورونا تم تطبيق برنامج العمل عن بعد، وسعت جميع الجهات إلى تنفيذ أعمالها من خلال أفراد لا يجتمعون في مكان واحد. وسعت الشركات إلى الحصول على البرامج المجانية التي تساعدهم على ربط موظفيهم وإنجاز أعمالهم، وبالتالي تم تفعيل التقنية بجدارة لتفعيل العمل عن بعد.
ومثل الوزارات في تفعيلها للعمل عن بعد والدراسة عن بعد، في عام 2020م وفي زمن الكورونا جاءت أكثر المتاجر والمحلات والسوبر ماركت بتفعيل البيع الإلكتروني، وبالتالي حافظت على عملائها في زمن الكورونا، ورغم القوة الشرائية الكبيرة التي كانت تتمتع بها المتاجر الإلكترونية سابقًا فإنه مع الكورونا تضاعفت لتطال معظم احتياجاتنا الضرورية وليس الاستهلاكية فقط..
وهنا نجد تحولًا عظيمًا للموارد البشرية أو رأس المال البشري، فقد اختلفت خريطة الوظائف وطبيعتها ومسئولياتها وأعتقد أن معظم الجهات الحكومية والخاصة ستعيد النظر في أوصافها الوظيفية؛ لتضيف لها معايير خاصة بالعمل عن بعد واستخدام التقنية كجزء مهم لإنجاز العمل، وبالتالي تخلق وظائف جديدة لتفعيل أنظمة إلكترونية .. وقسم الموارد البشرية نفسه يحتاج إلى إخصائيي موارد بشرية بقدرات ومهارات معينة لمواكبة الطفرة الزمنية التي نعيشها.
حاليًا وبسبب الكورونا يجب أن تفعل الموارد البشرية الأنظمة الإلكترونية للتواصل مع عملائها الداخليين، وبالتالي تزداد الفائدة وتقل المشاكل. فالتقنية وتفعيلها بنسبة 99-100% في الموارد البشرية لها أثر إيجابي على الجانب الاستراتيجي والجانب التشغيلي.
أما الجانب الاستراتيجي فقد اشبع كلامًا وشرحًا في عدة مقالات محلية وأجنبية، أما الجانب التشغيلي وهو الجانب الذي يستنزف قوى إدارات الموارد البشرية ويضعها في مكان المنفذ أكثر من المخطط أو الاستراتيجي ويهلك تعاملاتها. ففهمنا للتكنولوجيا في الموارد البشرية قبل الكورونا هو وجود نظام إداري (HRS) ليعمل عليه موظف الموارد البشرية من إدخال بيانات وتسجيل وتعميد وتفعيل ..الخ من الإجراءات التي يجب أن تنفذ. وأغفل جانب الخدمة الذاتية التي لو منحت للموظف لإكمال إجراءاته ولتمكنا من التركيز على التحسين والتطوير ومراجعة الأداء بشكل أكبر. إن التحول إلى الخدمة الذاتية سيكون هو الحل الأمثل، فكل موظف مسؤول عن إجازاته وعقده وتقييم الأداء الوظيفي سيتحمل مسؤولية تنفيذ اللوائح والإجراءات جنبًا إلى جنب مع الموارد البشرية.. وهناك بعض الشركات والمؤسسات الحكومية تطبق الخدمة الذاتية، ولكن بحدود معينة. ولكن بعد الكورونا يفترض أن يُفعل بشكل كامل في جميع قطاعات الأعمال. وأعتقد هذا هو التحول الرقمي المهم في المرحلة الحالية.
ما يثير الاستغراب أن البرامج التي ظلت لسنين في محاولة التنفيذ، مع كورونا نفذت بين ليلة وضحاها. قد تكون الكورونا عن قصد او غير قصد عاملًا إيجابيًا يسرع عملية التحول والانتقال، وها نحن الآن نمهد إلى القضاء على التعاملات المالية الورقية لتكون تعاملاتنا المالية جميعها إلكترونية..
إن مصطلح كورونا سيشير إلى فترة زمنية من حياة البشر يشار إليها بأحداث ما قبل الكورونا وأحداث ما بعد الكورونا؛ لتكون الكورونا بذلك مرادفًا لكلمة التقنية والعصور الوسطى والعصر الحجري، السحتوت…الخ لتدخل بذلك التاريخ من أوسع أبوابه، وتظل علامة فارقة في حياة العالم عامة وحياة المملكة العربية السعودية خاصة.
فليشهد التاريخ أننا في زمن الكورونا انتقلنا إلى مكان جديد، وسيكون من الصعب بل من المستحيل أن نرجع إلى فترة ما قبل الكورونا.