
رشَّتْ على وسادتِها رذاذَ عطره المُفضَّل من القِنِّينة التي تركها على ( التَّسريحة ) بجوار السرير .. دسَّتْ أنفَها في الوسادة .. تقلَّبت بملابسِ الحدادِ مؤرَّقةً.. حدَّقت في القنّينة التي بدا نصفُها خاليًا ..أحاطت بها ذكرياتُ الأشهر الأخيرة التي أنعشَ فيها هذا العطرُ علاقَتَهُما بعدما دبَّ إليها كثيرٌ من الفتور والرَّتابة ..
حين دخلَ البيتِ وفتحَ القنّينة لأولِ مرةٍ أخذ يرشُّ رذاذ العطر في كلّ مكانٍ : دولابِ الملابسِ .. مفرشِ السريرِ ..قمصانِ نومها .. الوسائد .. ( أباجورة ) مكتبه .. السّتائر .. شاشة التَّلفاز ..المرآة الكبيرة التي يُهندمُ فيها ملابِسَه قبل الذهابِ إلى المؤتمراتِ الأدبية . أسرع إلى المطبخِ يُهددها مُمازحًا برشِّ العطرِ في أواني الطعام التي تراجعتْ رائحتُها الشهية – التي كان يعشقُها – أمام سطوة العطر .. بدا كأنه قد زرعَ حديقةً جديدةً في قلبِ البيتِ ..كأنَّ أنفاسًا جديدةً تُشاركهما الحياة…حين قطَّبتْ في تساؤل ودهشةٍ أخذ يرشُّ رذاذ العطرِ في كفَّيه ثم يمسحُ وجنتيها .. يتحسسُ رقبتَها برقةٍ .. يتخللُ شعرها بأصابعه .. يعصرُ خصرَها ..استرختْ بين ذراعيه فوق الوسائد الغارقة في العطر وهي ترنو إليه بكحلٍ مَشوقٍ وسْنَان .. لم تكن تملكُ إلَّا أن تبتسمَ في امتنانٍ لهذا العطر الجديد الذي أمدَّه بكلّ هذا الشَّغف .. هذه الحيوية ..هذا الإيقاع المختلف الذي لا يكونُ إلَّا لمنْ يعشقُ من جديدٍ .
كان – كلَّ مساءٍ – يرتدي قطعة جديدة من ملابسه التي اشتراها مؤخَّرًا .. يحملُ أوراقَ كتابته الجديدة في حقيبته التي كانت تراها لأوّل مرة .. يُخبرُها أنه سيناقشُ روايته الجديدة ..سيقرأُ قصائد ديوانه الذي صدر حديثًا ..تبتسمُ وهي تتشممُ هذه الحيوية .. هذا البريق ..هذا الإيقاعَ الذي لا يكونُ إلَّا لمن يمتلكُ توقًا للبدءِ من جديد . يشكُرها بحرارةٍ لأنَّها أعدَّت له الشطائر التي طلبها – والتي
تتصاعدُ رائحةُ توابِلِها الشرقية من حقيبته – يؤكدُ لها أنّه يعجزُ – مهما استبدّ به الجوعُ خارج البيتِ – أنْ يأكل غيرَ طعامها .. تبتسمُ في سعادةٍ ، يُوصيها – وهو يُقبِّلُها – ألَّا تنسى أن تعدّ له بيديها الماهرتين وجبةً شهية.. يغلقُ البابَ. تهرولُ إلى المطبخ ..تُعدُّ وجبةً تتراجعُ رائحتُها أمام سطوة العطر الذي خلَّفه وراءه .. تستشعرُ الخيبةَ والقلقَ ؛ فقد صارحها – عند تقدمه لخطبتها – بأنه أُعجب بها بعد أن تأكّد أنها – كما كان يتمنى – ربَّةُ بيتٍ من الطراز الأول مثل أمّه .
في الأسابيع الأخيرة ألمحتْ إلى قلقها وغيرتِها من الأديبات والشاعرات – والفنانات التَّشكيليات – الَّلائي يراهنّ كل يومٍ و يشاركنه اهتماماته الأدبية والفنية في الوقت الذي تعجزُ أن تشاركه شيئًا يتعدى مائدة الطعام وفراش النوم .. وضع قنّينة العطر – التي كان يتشممها بابتسامة شاردة – على مكتبه .. ضحكَ بصوتٍ عالٍ .. أكَّد لها أنَّ مثل هذا النوع من النساء لا يصلحن للحياة الزوجية ..لم يُخلقنَ لعلاقة مستقرة ؛ فتكوينهنّ العاطفي مُتفجِّرٌ ..صاخبٌ ..متقلّبٌ .. نَزِقٌ مثل لحظات الكتابة .. يُرهقنَ الزوجَ باعتدادهنّ الزَّائف الذي يجعلهنّ مُتأبياتٍ على الطاعة والخضوع .. يُقلقن الزوج بتوهجِ عواطفهنّ الذي يُثيرُ تشكُّكَه في مدى كفايته وقدرته على الإرضاء .
في واحدةٍ من نوباتِ شكوكها الأخيرة قبَّلَ يديها .. قال لها : الزوجةُ الحقيقية هي القادرة على صنع وجبة ذات رائحة شهية ..لا القادرة على إبداع قطعة أدبيّة ..
-2-
حدَّقت في القنِّينة التي وصلَ العطرُ إلى منتصفِها ..تشممتها وهي تضمُّها إلى صدرها المُتّشح بسواد الحداد في لوعةٍ وشوقٍ ..اقتفتْ أثر العطرِ في مفرشِ السريرِ .. الوسائد.. دولابِ الملابسِ ..قمصانِ نومها .. السّتائر.. شاشة التَّلفاز .. المرآة الكبيرة التي كان يُهندمُ فيها ملابِسَه قبل الذهابِ إلى المؤتمراتِ الأدبية .. ( أباجورة ) مكتبه .. العطرُ ينبعثُ قويًّا من مكتبه .. العطرُ ينبعثُ – بدرجة أقوى – من حقيبته التي عثرتْ فيها على قنينة عطره المفضّل – في عُلْبَتها الأنيقة – مختبئةً بين أوراق كتابته الجديدة ، تُحيطُ بها ورقةٌ مُزركشةٌ ، كُتبُ فيها بخطٍ رقيق :
” هذا عطرُ ما بيننا : منحَنا أنفاسه فعتَّقناها بأنفاس أشواقنا . ليكن هذا العطرُ دائما معكْ ..فيك .. حولك – يا زوجي الحبيب – كما كان معنا طوال هذه الأشهر في لحظات احتدامِ الكتابة و العشق ..في هذيانِ التَّوابل الشرقيَّة في الشَّطائر التي كنتَ تحملِهُا إليَّ ..في الشَّغف النَّزِق .. الموسيقى الغربية والطبول الأفريقية التي رقصنَا عليها ..( الشيشة ) العربية..في الجنون.. التَّفجر .. في التوق لبدءٍ جديد يا كحلَ عيني ..”
استشعرتْ موته .. بكتْ كما لم تضحكْ من قبل .. مزَّقت _ دون أنْ تعي _ ملابس الحداد التي ترتديها .. قذفت قنِّينة العطر بكل قوتها ؛ فاصطدمت بالمرآة فصدَّعتها ، ثم ارتدّت إلى يديها بقوةٍ …وقفتْ شبه عاريةٍ أمام شروخ المرآة .. رأت عدة نساءٍ عرايا – يُشبهنها – انغرزت فيهنّ أسنةُ
الزجاج المُشرعة التي برزت من المرآة عالقةً بالورق المُفضض ..انغرزتْ أسنّةُ الزجاج في المواضع التي كان يُقبّلها فيها بعد أن يضع عطره ..في المواضع التي كانت تسترخي حين يداعبُها فتبتسمُ مُمتنةً للعطر .
أسرعت إلى الحمَّام تغسلُ جسدَها وقد خُيِّلَ إليها أنَّ العطر قد سكنَ جلدها وعظامَها .. دعكت جسدها بكلِ قوةٍ ..لكنها كانت مُوقنةً أنَّ آثار العطر مازالت تسكنها .. هرولت إلى دولاب ملابسها لترتدي ثوبًا مُلوّنًا بعدَ أنْ مزَّقت ثوب الحداد .. فتحت الدولاب ..تصدّت لها رائحة العطر تتصاعدُ بقوةٍ.. وقفت عاريةً تحدّقُ في ملابس لم تَعُدْ لها ..
-3-
صارحها صديقُ عمره بعد أنْ قدّم واجب العزاء بأنّه كان يعشقها في صمتٍ موجع منذ فترة طويلةٍ ، وكان يتناثر قطعًا كلما تذكر أنها زوجةُ رجلٍ آخر .. زوجة رجلٍ يراه كلَّ ليلةٍ قادمًا من عندها ..عائدًا إليها .. قالت في حنقٍ وسخرية حاولت إخفاءهما :
وزوجتُك ؟!
أشعلَ سيجارته .. قال :
كنت حريصًا على الارتباط بامرأة مثقفة .. كاتبة .. شاعرة تتفهمَ لحظات تقلّب المزاج والعاطفة التَّفجُّر .. النزق ..الصخب .. القلق الذي يتبطنُ شخصية الأديب والذي انتقل إليه من سمات الكتابة ذاتها . مرّت الأسابيعُ الأولى من زواجنا هادئة ثم ..
قاطعتُه وهي تكملُ بآلية و حدّةٍ :
اُصيبت العلاقة الزوجية كالعادة بكثيرٍ من الفتور .. و الرتابة ..
نظرَ إليها في دهشة.. نفضَ رماد سيجارته .. ثم أكمل :
اكتشفتُ أنني أعيشُ مع كاتبةٍ .. لا زوجة .. أعيشُ في مركزٍ ثقافي لا في بيتٍ مستقرٍ..كانت تُدعى لمناقشة الأعمال الأدبية ولقراءة أعمالها مثلما أُدعى .. تسهرُ لتكتبَ طوال الليلِ مثلما أسهر ؛فكنتُ أزورُ والدتي لأتناول الوجبة الشهيةً الدافئة التي تعجزُ عن طهيها .. لم تكن تملُّ من مناقشتي في المدارس النقدية والاتجاهات الأدبية ؛ فكنتُ أبيتُ عند أُمي لأشبع حاجتي من عفوية المرأة وفطرتها وبساطتها .. كانت تثور حين أطلب منها تأجيل الكتابة والاهتمام بأمور البيت والمطبخ وغسل الملابس
..تتهمني بالشيزوفرينيا ..بالساديّة .. بالاستعلاء الأبوي .. قهر المجتمع الذّكوري ؛ فأندمُ أنني لم أتزوجْ امرأةً مثلَ أمي : ربَّة بيتٍ من الطرازِ الأوّل ..
صدقيني : الزوجةُ الحقيقية هي القادرة على صنع وجبة ذات رائحة شهية ..
قاطعته ، و أكملت عبارتَه في سخريةٍ حادة :
لا القادرة على إبداع قطعة أدبية ..
-4-
استغرقَ في وصف تفاصيل عشقه لها .. نظرتْ إليه شاردةً ترددُ في نفسِها في هذيانٍ : أهكذا حدث الأمر معك يا زوجي الراحل ..يااازوجي الوفي ؟! ها هو ذا السيناريو يأتيني كاملًا ..نعم يا صديقه الوفيَّ ، كنتَ تزورُنا مع زوجتك .. تجلسُ بجوارها تتأملني ..تتمناني ..تحتفظُ بزوجةٍ تقرأُ وتكتبُ
.. وتتمنىّ امرأةً تطهو لك .. تغارُ عليَّ من زوجي الذي أُشاركُه المطبخَ والفراش .. والذي يعشقُ امرأةً أخرى يخبِّئها في حجرةَ مكتبه وأوراقه ..يضمخُني قبل أن يضمَّني بعطرِ امرأته الجديدة ؛ فيعاشرُ كلتينا في لحظةٍ واحدةٍ …. وأنت يا صديقه الوفيّ ، هل كنتَ تستحضر طيفي وأنت في حضن زوجتِك ؟! أو كنتُ أُقاسمُكما التفاصيل ..أيُّ منَّا الحقيقة وأيٌّ منَّا الوهم : أنا أم زوجتُك ؟! لم يكن الراحل يشعرُ بي حتى إذا رشَّني برذاذ عطرها رآني ..قبَّلني .. احتضنني بحرارةٍ وشغفٍ ..منذُ أنْ ضمّخني بعطرها وهو يعيشُ معي تفاصيل عشقٍ جديد .. كنتُ أعشقُ عطرَها فيه .. كانت هي الحياةً النابضةً رغم اختبائها في قنينة عطر ..وكنتُ كيانًا ميتا احتاج إلى رذاذ عطرها ليستعيدَ النَّبضَ والاعترافَ بوجوده ..
-5-
أشعلَ سيجارةً جديدةً ..رجاها أنْ توافق على الارتباط به ..أكَّد لها أنها ستكونُ مرفأَ حياته وعطرَ أيامه ..
رددتْ في نفسها أكثر من مرةٍ : عطرَ أيامه .. عطرَ أيامه ..؟! لم لا أمنحُ نفسي فرصة أن أكونَ أنا العطر هذه المرة ..؟ سأكونُ الحقيقة ساعتئذٍ ..ستكون زوجته الأولى وهما .. ستحتاجُ المسكينةُ إلى رذاذ ِ عطري لتستعيدَ النبضَ والاعتراف بوجودها .. نعم .. نعم .. سيضمخُ قمصان نومها برائحة عطري ..سيضمُّ قنينتي وهو يبتسمُ شاردًا ..سأكونُ شغفه الجديد ..والتوق الصاخب .. والتَّفجُّرَ النَّزق ..سأكونُ القلق .. اصطخابَ العروقِ بدهشةٍ جديدة .. سيحملني بين يديه حين يذهب إليها .. يخفيني بين طياتِ قميصه في حذرٍ وحرصٍ شديدين .. سيكونُ ماهرا جدا في تخبئتي
بين أوراق كتاباته الجديدة .. سيناديها بـــ حبيبتي كما كان الراحلُ يفعلُ حتى لا يُخطئَ في اسمها ..ستدهش من رقة كلماته .. ستقطِّبُ حين تراه حريصًا على احتضانها – بعد أن صار العناقُ فريضة مهملةً منذ انقضاء شهر العسل – حريصا على تقبيلها ، بعد أن صارت القبلاتُ بين الأزواج أمرًا محرجًا يُثيرُ الخجلَ .. نعم ..لمَ لا أوافق .. ما أجمل أن نمنح أنفسنا فرصة نجلس فيها على مقعدٍ مغايرٍ .
أخرجتْ من حقيبتِها قنينةَ الراحلِ التي وصلَ العطرُ إلى منتصفها ..وضعتْ في يده قليلًا منها ..حدّقتْ في عينيه وهي ترددُ في نفسها :
أنا منْ سيسكنُ هذا العطرَ الآن .. لا أحد َغيري ..ستراني فيه حين تشمُّه .سيولدُ هذا العطرُ ولادةً جديدة في مَدارٍ جديد ..سأكونُ عطرَ أيامِك بدءًا من هذه اللحظة .
حدّقَ طويلًا .. أخرج – من حقيبةِ أوراقه – قنينةَ العطر ذاته ..وقد وصلَ العطرُ إلى منتصفِها أيضًا ..وضع في يدها قليلًا منها .. همسَ قائلًا :
أحملُ هذا العطرَ منذ رأيتُ المرحوم يحملُ قنينته ويقرأُ كلماتِك الرقيقة التي كتبتِها على لُفافَتها .. لقد بدأَ عشقي لكِ منذ اللحظة التي اقتحمتني فيها هذه الكلمات التي أبرزتْ أنوثتَكِ المُفعمة بالشغف والتوق والحرارة والحياة . أضافَ ضاحكًا : والتوابلِ الشَّرقية .
احتضنَ كفَّها بكفّه ..تصاعدت رائحةُ العطرِ في منتصف المسافة بينهما وهو يقولُ : أدركتُ في هذه اللحظة أنَّك الأنثى التي أصبو إليها ..الأنثى المثال ..وجعلتُ عطرَكِ المفضَّلَ عطري .. حملتُ قنينتَه في حقيبتي لتكوني معي في كلّ مكانٍ ..صرتُ أرشُّ رذاذه في كل مكانٍ في البيت : دولابِ الملابسِ .. مفرشِ السريرِ .. ملابس النوم .. الوسائد .. ( أباجورة ) المكتب .. السّتائر .. شاشة التَّلفاز .. المرآة الكبيرة التي أُهندمُ فيها ملابِسي قبل الذهابِ إلى المؤتمراتِ الأدبية..أوشكتُ أنْ أرشَّ به الطعام َ حتى يصبح جزءا من دورتي الدموية ..
ضحكتْ كما لم تبكِ من قبل.. دفع فاتورة المشروبات .. أخرجتْ مرآتها الصغيرة من الحقيبة .. أحاطتْ جفونَها بالكُحلِ الأسود .. مدَّ ذراعه ..تأبطتْه وقد لمعتْ عيناها ببريقٍ عجيبٍ .. تلاصقا في الطريق إلى بيتهما الجديد وكلاهما يحملُ في حقيبته نصفَ قنينة عطر .
———————
أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد
جامعة الباحة ( سابقا )
كم نحن في حاجة إلى تلك القصص التي تبعدنا قليلا عن أخبار كورونا..
قرأتها وأنا أسرح بمخيلتي بعيداًً، حتى ظننت أنني الزوج الثاني، ورائحة ما بقي من قنينة العطر تحفني، بوركتم دكتورة كاميليا وصحيفة مكة، التي خطبت ودك لتنيري صفحات الصحيفة بما تسطرينه، أملاً وتفاؤلاً بحياة وردية عطرة بعون الله، إبداع فألكم الخير..
كل الشكر وصادق التقدير لحضرتك ؛ ولهذه القراءة الكريمة . بارك اللهُ فيكم .
الله عندما يتخلى الناقد عن ذاته الناقده ويدخل في صومعة الابداع تجد العجب والصدق والجمال ،،،اخلع قبعتك ولا تكن سواك !!!تمنيت عدم التعريف الاكاديمي ليبقى المبدع القاص السارد
شكري وتقديري الصادقين للشاعر والناقد المتميز الأستاذ الدكتور يوسف العارف .دمتَ بحرف مبدعٍ جاذبٍ .
لا شك أن التحولات التي تواجه علاقة الرجل بالمرأة وتسهم في تصاعد حالة التوتر في قصة ” تفاصيل عطر قديم ” للموهوبة القاصة د/ كاميليا عبد الفتاح ، تبين عن درامية خاصة تكشف عن الرؤية الفنية التي تقدمها الكاتبة لتجربة واقعية من خلال ” عطر ” هو البطل الحقيقي في القصة و في خماسية تحولاته بين قيم لها دلالاتها وايديولوجياتها ، باعتباره بؤرة السرد ومركزه ، ولهذا يمكننا القول أن العطر بفعل تأثيره الحاد هو الفضاء المعاش في النص كله ، وقد أحسنت الكاتبة تقطيع نصها إلى خمس حالات عطرية أبانت فيهما عن تحولات العطر وأثره في استمرار العلاقة من عدمها ، والكاتبة اعتمدت في سردها الممتع على ضميري المتكلم الغائب والغائب المتكلم ، بحيث نجدنا أمام رؤية وجودية لا الرأي الخاص الذي يمكن أن يسم التجربة بين الرجل والمرأة بالفشل أو النجاح ، وربما يبين عن انحياز ما لم تقع فيه الكاتبة ، فتركت شخصياتها تتحرك وتفعل والقارئ يمكنه أن يكمل الرؤية مع أو ضد كما يشاء ، فلم نجد مثلا أي تعبير يدل على اتهام ، أو يجعل أحدهم يدفع ثمن ما اقترف تجاه الأخر بشكل مباشر ، والدليل نهاية القصة المهمة جدا ( تلاصقا في الطريق إلى بيتهما الجديد وكلاهما يحمل في حقيبته نصف قنينة عطر ” وعليه يمكن القول بأن اللغة أيضا تناصت مع الوقائع أو بالأصح مع درامية العطر في مضمونه الوجودي والنفسي كونه من خلال السرد المعطر هذا أن يمزج بين الرمزي فيه والواقعي منه برهافة لا يشعر بها القارئ ، وبما يجعله يمتلئ بالعطر ذاته ( روحا وجسدا) كنتيجة فعلية لكتابة راقصة وفرحة ومبتهجة بذاتها ، شكرا بحجم البهجة التي قرأتها في سردك المبدع ويمكن تسميته بانه سرد الرؤيا .. خالص التقدير
هذا التناول النقدي العميق ليس بمُستغربٍ من ناقدٍ له عطاؤك أستاذ محمد ؛ فأنت تقدم جهودك النقدية التي تتابع فيها مسيرة الإبداع المصري والعربي على مدار سنواتٍ طويلة دون أن تفقد يقينك بقيمة الكلمة ودورها في تنوير جنبات الحياة الإنسانية . هذا فضلا عن منجزك الإبداعي في مجال السرد والشعر . لكل هذا لا أدهش من رؤيتك النقدية التي نفذت فيها إلى كثير من جوانب الرؤية في هذه القصة عبر الكشف عن رمزية العطر وسمات اللغة ومسارها الدرامي . شكري وتقديري الصادقين لحضرتك .