تعتبر الأزمات ظاهرة تُرافق الأمم والمُجتمعات على اختلاف مذَاهبهم؛ بل إنها تتوسَّط المراحل المهمَّة في حياة الشُّعوب، فبين كلّ مرحلةٍ ومرحلة ثمَّة أزمة تُشعل الصرَّاعات من جهة، وتحفِّزُ الإبداع من جهة أخرى؛ تمهيدًا لِبدء مرحلةٍ جديدة .. ! ممَّا يَستلزمُ وجود القيادة الفاعِلة والقادرة على الخروج من الأزمة بحسن الإدارة وصُنع القرار؛ خاصَّة حين يتعلقُ الأمر بأمن الإنسان وحياته كما في أزمات الحُروب والكوارث وانتشار الأوبئة القاتلة، ممَّا يستدعي تدخُّل إرادةٍ بشريَّةِ تمتلكُ من الخصائص ما يؤهِّلها للتحرُّك في الوقت المُناسب واتِّخاذ القرارات السَّريعة مع سياسةٍ مؤقَّتة تحُول دون بقاء الأزمة واستمرارها .
والمتتبِّع للأحداث والظُّروف المختلفة يجد أن للأزمات بكلِّ أشكالها دورًا مُؤثِّرًا في تاريخ البشريَّة على صعيد الهدم والبناء، فالأزمة وإن كانت لها جوانب تبدو في أوقات كثيرة ماديَّة إلاَّ أنَّها في جوهرها ظاهرةٌ إنسانيَّة تُصيب المُجتمعات وتكون نافعةً للإنسان إذا ما تعلَّم منها واعتبرْ ..! فهي مُجرَّد فتنة..! والفتنة اختبـــار .. والعبرة فيه بالنَّتائج، وتلك النَّتائج تختلف حتمًا بحسب القُدرة على التَّحكُّم والسَّيطرة.
وقد ارتبطت الأزمات في إدارتها بعنصُر القيادة السِّياسيَّة ارتباطًا مُتلازمًا، فصانعُ السِّياسة عندما يَستجيب بالكفاءة اللَّازمة فإنَّه يُقلِّل من حجم الضَّرر لأقلِّ درجةٍ مُمكنةٍ بينما تتضاعفُ الأزمة إذا فَشلت القيادة في إدارتها. فالشُّعوب التي اعتمد قادتُها على سياسات خاصَّة وناجحة وقادرة على اتِّخاذ القرار كانت أقدرَ على مُواجهة أزماتها من تلك التي واجهتها بأسلوب عشوائيٍّ أو غير مدروس، وتلك هي نظريَّة (التَّحدِّي والاستجابة) والتِّي تُؤكِّد على أن المجتمع الذي يُواجه مع قيادته الظُّروف القاسية بنجاح يكونُ أمام إعمار حضارةٍ قويَّةٍ ذات شأن والعكسُ بالعكس.
ودائمًا في أوقات الأزمات يزدادُ تعلُّق المُواطنين بقياداتهم على كافَّة المستويات بدءًا من القيادات العُليا في الدَّولة ومُرورًا بالقيادات المَحليَّة؛ بوصفهم صانعي قرار؛ حيث يُتوقَّع منهم مواجهة التَّحديات أو على الأقل التَّقليل من حَجم الخسائر، كما يقعُ على عاتقهم مسؤوليَّة الشَّرح والتَّوضيح وطَمأنةِ النَّاس وتخفيف قلقهم ومخاوفهم، وهذه المَهام هي التي أشارت إليها أدبيَّات إدارة الأزمات والتي تتلخَّص في: الإدراك، صنع القرار، الشَّرح والإقناع، وضع نهاية للأزمة، التَّعلم واستخلاص الدُّروس. وهذه المَهام المُترابطة تُعدُّ أساسًا لِمَا سيُبنى عليها من سِياسَات.
ومن البديهيِّ أنَّه من أجل إنجاح خُطَّةٍ مُتكاملةٍ وفاعِلة لمواجهة الأزمات، فإنَّه لابدَّ من الاعتماد على السُّلطة التَّشريعيَّة للدَّولة؛ لتمنَح الدَّعم القَانوني اللاَّزم للتَّنفيذ في حال وجودِ تشريعاتٍ مناسبة وِفق مَرسومٍ مُؤقَّت للنَّجدة من الأزمة، ويُمكن عند تطبيقه تشكيل هيئة مركزيَّة عُليا تُسنَد إليها السُّلطات والصَّلاحيَّات، وتُناط بها المَسؤوليَّات اللاَّزمة للتَّخطيط والاستعداد، ويكون تشكيلُها ضمن الوزارة الأَقرب لطبيعة اختصاصها.
إذًا فالقوانين والتَّشريعات تمتلكُ أهمَّ الأدوات التي تُبيح للحُكومات تَحقيق المَوارد المُناسبة والتَّصدِّي لعوامِل الضَّعف وإشراكِ القِطاعات المُختلفة في تقليل درجة المَخاطر والتَّعامُل مع الأزمة على أنَّها اختلالٌ طارئٌ مفاجئٌ في المنظُومة الطَّبيعية على نحوٍ يُؤثِّر سَلبًا على كافَّة المَجالات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والصِّحيَّة والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة؛ بلْ يُمكن أن يَكون مرُكَّبًا من كُلِّ هذه النَّواحي فيُحقِّقُ الفَرق بين ما كان عليه الوضع وما أصبَح عليه مع مجهوليَّة ما سيؤولُ إليه في المُستقبل.
وعليه لابُدَّ أن تَكون النُّصوص التَّشريعيَّة على قدرٍ من الكفاءة بحيث تُواكبُ الواقع والمُستجدَّات على نحوٍ يَخدمُ مَصلحةَ المُخاطبين في الظُّروف الطَّارئة والاستثنائيَّة التي لم يكن من المتوقَّع حدُوثها سَواء أكانت أزمات ممتدَّة (طويلة الأجل) أو أزمات مؤقَّتة (قصيرة الأجل) وكلِا النَّوعين لابدَّ أن يخضع لسِياسَاتٍ استراتيجيَّة تعَمل على بَذل كُلِّ ما يُمكن للسَّيطرة على الأزمة وآثارها بما يتناسب مع طبيعتها، وتكون خاضعةً لمعايير قانونيَّة وموضُوعيَّة ومُحايدة.
ويظهر من ذلك أنَّ مُعالجة الأزمة من خلال القواعد القانونيَّة يكون إمَّا بالوسائلِ المعنويَّة أو بالوسائل الماديَّة، أمَّا المعنويَّة فتتمثَّل في الجانب النَّفسيِّ والفكريِّ كالثِّقة بالنَّفس والصَّبر والتَّعاون واعتماد رُوح النَّص القانونيَّ وتطويعِه بما يَصلحُ لطبيعة الأزمة، وأمَّا الماديَّة فتتمثَّل في التَّدخُّل الميدانيِّ لتوظيف القَدر المَاديِّ من وسائل تتبعُ التَّنظيم القانوني المُتعلِّق بها كتشغيل فريق عملٍ لمُتابعة الأزمة، ورصد المُستلزمات المَاديَّة، وتوظيفِ النُّصوص التَّشريعيَّة المُلائِمة لِحصْر آثار الأزمة وتبويبها تشريعيًّا، ويكون ذلك من خلال مَسلكين: الأول – الوقائيِّ لتوقِّي حصول الأزمات مُستقبلاً، فإن كانت الأزمة تطغى عليها الطَّبيعةُ السِّياسيَّة فإنَّ مواجهتها تكونُ من خلال إصلاح النَّص الأساسي، وإن كانت الأزمة تنطوي على طبيعةٍ اقتصاديَّة فيقتضي مُعالجتها من خلال إصدارِ تشريعاتٍ تُساعد على تطبيق النُّصوص التي تستهدفُ تحقيقَ منافعٍ اقتصاديَّة، وإن كانت الأزمة تَحمل طبيعةً مُختلطةً بحيث تُشكِّل أزمة سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وصحيَّة؛ فيقتضي أن يُتوَقَّى حُصولها من خلال تشريع نظامٍ موَّحدٍ لمعالجتها كما هو الحال بالنِّسبة لأزمة الفساد الماليِّ والإداري.
أمَّا الثاني – فهو المَسلكُ العِلاجيِّ بعد وقوع الأزمة كالتَّصدي لها في الوقت المُناسب؛ إذ إنه يُخفِّف من آثارها ويَمنعُ تكرارها .
ومع انفجار الأزمة الصحيَّة العالمية (كورونا) التي هددت البشرية وأطبقت كمَّامة الذهول والخوف على فم العالم كله، يأتي دور القيادة الحكيمة في المملكة العربية السعودية لمعالجة الأزمة من خلال إصدار عدد من القرارات والنصوص التشريعية المؤقتة والملائمة لهذه الظروف الاستثنائية، ومنها:
1 – الأمر الملكي بتاريخ 27 / 7 / 1441 هـ بمنع التجول لمدة 21 يومًا للحد من انتشار فيروس كورونا الجديد باستثناء منسوبي القطاعات الحيوية من القطاعين العام والخاص الذين تتطلب أعمالهم الاستمرار في أدائها. وحددت وزارة الداخلية عقوبة مخالفة أمر منع التَّجول بغرامة 10 آلاف ريال، وضاعف في حال التكرار، فإن عاد إلى ارتكابها يعاقب بالسَّجن لمدَّة لاتزيد عن 20 يومًا؛ إلا في حالات الضرورة القصوى والحالات الصحية الطارئة.
ويُعدًّ هذا القرار قرارًا دستوريًا حاسمًا يهدف إلى ضبط السُّلوك الاجتماعي وتوجيهه بما يتناسب مع طبيعة الأزمة، ويستند في ذلك إلى المادة الثانية والستين من النظام الأساسي للحكم، حيث نصت على أنَّ : ” للملك إذا نشأ خطر يهدد سلامة المملكة، أو وحدة أراضيها، أو أمن شعبها ومصالحه، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء مهامها، أن يتخذ من الإجراءات السريعة ما يكفل مواجهة هذا الخطر، وإذا رأى الملك أن يكون لهذه الإجراءات صفة الاستمرار فيتخذ بشأنها ما يلزم نظامًا“.
2 – قرار هيئة كبار العلماء رقم 247 وتاريخ 22 / 7 / 1441 هـ بإيقاف صلاة الجمعة والجماعة لجميع الفروض في المساجد والاكتفاء برفع الآذانويستثنى من ذلك الحرمان الشريفان مع التقيُّد التام بما تصدره الجهات المختصة من إجراءات وقائية.
3 – قرار وزارة التعليم 79305 وتاريخ 13 / 7 / 1441 هـ بتعليق الدراسة مؤقتًا في جميع مناطق المملكة وحتى إشعار آخر، وتفعيل المدارس الافتراضية والتعليم عن بعد خلال فترة تعليق الدراسة بقرار 3203 وتاريخ 14 / 7 / 1441 هـ .
4 – تعميم وزارة الموارد البشرية رقم 8632 وتاريخ 21 / 7 / 1441 هـ بتعليق الحضور إلى مقرَّات العمل لمدة 16 يومًا كإجراء احترازي.
5 – اتخاذ لعدد من التدابير العاجلة لتخفيف آثار تداعيات فيروس كورونا على الأنشطة الاقتصادية والقطاع الخاص تمثلت في عدة مبادرات عاجلة منها: (تفويض وزير المالية للموافقة على الإقراض وغيره من صور التمويل والإعفاء من سداد رسوم وعوائد القروض الممنوحة حتى نهاية العام 2020م – الإعفاء من المقابل المالي على الوافدين المنتهية إقاماتهم من تاريخه وحتى 30 يونيو 2020م، وذلك من خلال تمديد فترة الإقامات الخاصة بهم لمدة ثلاثة أشهر دون مقابل – تمكين أصحاب العمل من استرداد رسوم تأشيرات العمل المصدرة التي لم تستغل خلال مدة حظر الدخول والخروج من المملكة حتى في حال ختمها في جواز السفر، أو تمديدها لمدة ثلاثة أشهر دون مقابل – تأجيل تحصيل الرسوم الجمركية على الواردات لمدة ثلاثين يومًا مقابل تقديم ضمان بنكي، وذلك للثلاثة أشهر القادمة – تأجيل دفع بعض رسوم الخدمات الحكومية والرسوم البلدية المستحقة على منشآت القطاع الخاص، وذلك لمدة ثلاثة أشهر، ووضع المعايير اللازمة لتمديد فترة التأجيل للأنشطة الأكثر تأثرًا حسب الحاجة …..إلخ)
وغير ذلك من القرارات الجريئة والحاسمة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية كإجراءات احترازية وتدابير عاجلة في مواجهة الأزمة العالمية والتي أثبتت مع الأيَّام أهميتها ودقَّتها وسموَّها، بعد أن وضعت بين ناظريها حماية شعبها … أولاً ..! وغضَّت الطَّرف عن أيَّة منافعٍ اقتصاديةٍ أو سياسية .. والشعب فيه من الوفاء مايحفظ الجميل والفَضل، وفيه من الأصالة ما يُترجِم للعالم المَعنى الحقيقي للتَّرابط والثَّبات والولاء.
فنحن أناسٌ لا توسُّطَ بيننا *** لنا الصَّدرُ دون العَالمين .. أو .. القبرُ..!
——————-
كلية الدراسات القضائية والأنظمة – جامعة أم القرى