يقول الشاعر:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ
وَالقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ
والتذكر يرتبط بموقف أو حدث في الماضي، يستدعيه الحاضر، وعملية ذهنية لاستعادة معلومات من الماضي؛
ويُعتبر أحد العمليات الجوهرية التي تجري في الذاكرة، إلى جانب الترميز للمعلومات وتخزينها.
وفلسفيًا فيعبر مفهوم الذاكرة عن: “مجموعة من التفاعلات النفسية التي تسترجع الماضي للحاضر من خلال العديد من آليات التذكر، وتتولى هذه الآليات مهمات فحص التجارب الحسية من الماضي ومعالجتها، وتنقسم الذاكرة إلى قسمين: الذاكرة الجمعية كالذاكرة المجتمعية، والذاكرة الفردية، وهي الذاكرة المتعلقة بتجارب كلّ فرد على حدة”.
وإذا كان التذكر أحد خصائص العقل، للأفراد، فإن علم الاجتماع يرى أن التذكر كما هو فردي، فهو جمعي؛ فيرى عالم الاجتماع (الفرنسيّ موريس هالبواشز ) وجود علاقة قويّة بين التذكُّر الشخصيّ للفرد، والمجتمع الذي ينتمي إليه. بمعنى أنّ عمليّة التذكُّر لا يمْكن أن تبقى منحصرةً بين الفرد وذاته؛ وإنّما أيضًا تجري ضِمن المنظومة الاجتماعيّة الواسعة التي يتفاعل معها الفرد، كالأسرة والأصدقاء وغير ذلك؛ حيث لا يمكن الفصل بين نمَطَي التذكُّر الجماعيّ والفرديّ، لأنّ “الذاكرة الجَمْعيّة ما هي إلّا نِتاج تفاعُل ذكريات فردية، والذاكرة الفردية ما هي إلّا نتاج تفاعُل الفرد مع الجماعة”.
والفيلسوف الفرنسي موريس هالبفاكس (Mauric Halbwachs) في دراساته حول الذاكرة الجمعية والذكريات الشخصية للفرد بالبيئة المجتمعية التي ينتمي إليها، واعتبر أن الإطار الاجتماعي ـ والذي تنشئه ثقافة مجتمع ماـ يسهر على وضع نسق جمعي يجعل الخبرات الفردية قابلة للتذكر وللتفسير؛
فعن طريق الحوار مع الآخرين (مثلًا: مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم) يتسنى للمرء تذكر محطات وتجارب هامة في حياته”.
وتُشير الذاكرة الجمعية إلى كيفية تذكر الجماعات لماضيهم.
“ولِفهم ذكريات بلد ما، فلابد من تناول وإدراك جزءًا أساسيًا من هويتهم الوطنية وآفاقهم. بالطبع ليست الدول هي من تملك الذكريات بل (شعبها)، ولكن عادةً تكون هناك مواضيع عامة ومشتركة.”
وقد وصف “روبرت بارك” هذا السلوك في مقال له، يحمل عنوان “السلوك الجمعي” بقوله: “إنه السلوك الناتج من أي نوع من التماثل بين الكائنات الإنسانية، حينما يتحرك كل فرد ويفكر ويسلك تحت تأثير نزوع معين أو حالة عقلية، يشترك فيها مجموعة أفراد، بغض النظر عن الظروف العامة”.
وللسلوك الجمعي أسس يقوم عليها:
*. يظهر عند وقوع حادث معين يُشبه حادث وقع في الماضي، إلا أنه يحدث في الحاضر. أي أن دافع الموقف الحاضر مأخوذ من الماضي؛
ومن هنا كان ربط الأحداث الآنية، بأحداث الماضي، سواء كانت هذه الأحداث إيجابية، أو سلبية، كالكوارث والأمراض، ومثال ذلك مايحدث الآن من ربط هذا الوباء المنتشر في العالم، بوباءات في عصور خوالٍ، كالطاعون والجدري وغيره.
*إن نشاط الإنسان يؤثر في نشاط الآخر، كما قد يخضع الآخرون لهذا النشاط الإنساني.
*إن وحدة النشاط التي يتلقاها الإنسان من الآخرين أكثر قيمة، بل إنه يعطي النشاط قيمته من خلال نشاط الآخرين.
*يتوقع الإنسان نشاط الآخرين بدرجة عالية.
ومن هنا كان استثمار التوعية الأمنية والصحية، والقرارات الإدارية في توجيه الجماعات، لتؤثر في سلوك الأفراد، وتنقاد لتوجّه الجماعة، فتحقق الاستجابة سلوكًا إيجابيًا يسهم في تحقيق الأهداف التي وضعتها السلطة لحماية الوطن والمواطن؛
وإذا كانت الأمراض معدية، فإن هناك من يرى أن: “العدوى الاجتماعية أو ما يعرف بالسلوك الجمعي السلبي، ينتشر كانتقال الجراثيم والفايروسات في الهواء، وهو مصطلح يشبه بشكل كبير مبدأ العدوى وانتقال الأمراض في الطب.”
وهو ماحدا بالدولة لوضع قوانين صارمة لضبط السلوك الفردي والجماعي، كالسجن والغرامات، وتحمّل مشرفو (القروبات) مسؤولية ماينشر، ويُتَداول حيث:
“تشكل وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي، مسرحًا مفتوحًا للسلوك الجمعي السلبي أكثر من الإيجابي، وانتشار الأفكار والتصرفات بسهولة أكبر مما كانت عليه في السابق، نظرًا لسهولة وسرعة وصولها، فيندفع الأفراد وينجرون وراءها، حتى أن البعض يرى نفسه غريبًا عن المجتمع إن لم يجر الآخرون بما هم فيه، وبالتالي لا يتطلب انتقال الأفكار وأحيانًا المشاعر والعواطف التواجد في مكان واحد، بل يمكن أن يتم بتأثير بعض الحوادث والأحداث”.
أخيرًا:
ليس في كل الأحوال الانقياد لسلوك الجماعة، فالشخصية الفردية المتميزة، يقودها العقل؛
“فحين يتوقف الإنسان عن تشغيل عقله، وإمعان التفكير والتمحيص ونقد ما يصل إليه، فإنه سيبقى على هامش الحياة، تاركًا للآخرين قيادته وفقًا لأهوائهم وتصوراتهم وإيمانهم، وإن لم يتمكن من الارتقاء بتفكيره وبذاته وشخصيته، ويمتلك القدرة على تحليل الواقع الذي يعيشه بكل جوانبه قديمه وجديده، ستبقى المجتمعات ضحية للأفكار التافهة العديمة الأهمية، والمؤذية في كثير من الأحيان، لذلك فإنَّ التحرر من القطيع يصبح خطوة ضرورية، لاسيما إذا كان لمخزونه الفكري صدى يمكن أن يحدث تغييرًا إيجابيًا في مكان ما”.
العزلة والحجر لاتعزل عقلك، ولاتحجب عواطفك، وتذكر أنك إنسان اجتماعي، فلاتنسَ أحبابك، وأصدقاءك، واجعل من الحدث درسًا في حاضرك لمستقبلك؛
افتكر، تذكر بإيجابية، لتعيش حياتك، كما أرادها الله لك، وكن عونًا للآخرين فتتجاوز العقبات، ولدولتك في تنفيذ التعليمات، فتحظى بجميل الحيوات.
وأختم بقول شاعر، يتذكر بحرقة:
أمن تذكر جيران بذي سلم
مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من أضم”