تجاوز والدي الثمانين من العمر حفظه الله ورعاه، ويعاني من أمراض متعددة ومزمنة، وكنت فيما مضى من سالف العصر والأوان أستمتع كثيرًا كل مساء بزيارته والاطمئنان على صحته وسلامته، والتأكد من أخذه لجرعات الدواء اللازمة له، وأتأكد شخصيًا من توفر كافة احتياجاته الضرورية.
كانت الأمور تبدو جميلة وهادئة ومستقرة وطبيعية، ولا يعكر صفوها شيء سوى زحمة السيارات في الطرقات، وأنا أتجه إليه من منزلي في غرب جدة إلى شرقها، وأحاول أن أجد طريقًا سالكًا يوصلني إليه من أقرب المخارج والطرق وأسهل المنافذ عدى ذلك الدنيا وردي والبهجة والفرحة تجيك، وتطل عليك من بدري.
اليوم في زمن كورونا لم تعد تلك المنغصات هي نفسها وطبيعتها، فقد تغيرت وتبدلت وتلونت، وتعقدت وأصبحت منغصات الماضي تبدو لنا كفاكهة الصيف لما أصبحنا نجده ونعاني منه من منغصات جديدة عجيبة كئيبة بغيضة مريرة، تسلب النوم من العيون، وتكسر خاطر كل قلب محب حنون.
أولى تلك المنغصات وأشدها إيلامًا هو خوفك وقلقك الدائم والكبير أن زيارتك لأهلك وأحبابك قد تسبب لهم ضررًا بالغًا فبعضهم لا يقدرون على مقاومة هذا الفيروس القاتل لكبر سنهم وظروفهم الصحية ومعاناتهم من أمراض مزمنة، فتعيش بين نارين حارقة لاهبة هي نار الشوق اليهم ونار الخوف عليهم، وبين تلك النارين تشتعل في صدرك نارًا أخرى لاسعة كيف تطمئن أن كل احتياجاتهم اليومية تصل إليهم وهم كانوا يعتمدون بعد الله عليك في كل شيء، أنت يديهم وأرجلهم والهواء الذي يستنشقونه في وحدتهم.
وكأي مواطن صالح تحرص على أن تحترم الأنظمة والتعليمات تسرع في البحث عن تصريح نظامي يسمح لك بالتنقل من حي لآخر حتى تصل لوالديك، ولو لمرتين أسبوعيًا فتحاول وتجتهد وترسل وتتصل على جهات الاختصاص، ولكن هيهات هيهات أن تجري الأمور كما تشتهي وتتمنى وتأمل وتظن فما تعتبره أنت أولوية بالنسبة إليك قد لا ينظر إليه بنفس الأهمية الطرف الآخر ويأتيك الرفض ممنوع منعًا باتًا، وتشعر بغصة في الحلق ودمعة حارقة تفر من عينيك ماذا تفعل ؟؟وكيف تتعايش مع هذا الواقع الأليم الذي فرضته عليك هذه الظروف القاهرة ؟؟وترجو، وتتمنى أن يكون هناك مرونة في النظام تسمح لأصحاب هذه الظروف الإنسانية بالتنقل إلى أحبابهم من كبار السن دون خوف أو وجل.
دون أن تتوقف أمام دورية تفتيش أمنية قلقًا متوترًا داعيًا وراجيًا من الله أن يسهل أمرك ويتفهم رجل الأمن ظرفك الذي دعاك للخروج من المنزل إلى منزل آخر يحتاجك أكثر من يدري قد تنجح محاولاتك، ويسمح لك بالمرور، وقد تصادف شخصًا آخر قد لا يصدقك أو يتمسك بما لديه من تعليمات وأنظمة لا تسمح لك، ولا تستطيع أن تلومه فيما فعل، ولكنك تلوم نفسك أنك جازفت وغامرت بتصرف قد تندم عليه، ويكلفك مالا تقدر عليه من مال وأعصاب الله بها عليم.
وبين الرجاء والأمل والخوف والتوتر وهذا وذاك يزداد الألم والقلق كل يوم، وتدعو الله أن تنجلي هذة الغمة وهذا الكابوس الجاثم على صدرونا والذي قلب حياتنا رأسًا على عقب، وحرمنا من لذة النوم وحرية التنقل والحركة واللقاء مع من نحب، وجعلنا نبتعد عنهم مجبرين ومضطرين.
لقاؤنا مع من نحب ولهم حقًّا علينا ليس ترفًا نستطيع أن نتخلى عنه بعض الوقت، وليس فعلًا محبذًا إن قام به البعض سقط عن الآخرين، ولكنه عند بعض الأسر والأشخاص وأصحاب الظروف أولوية قصوى وأمر ضروري لابد منه ولا بديل عنه؛ كي نحافظ على حياتهم ونؤمن لهم حياة كريمة.
هناك من يتغدى على أنبوب تغذية منزلية يتطلب العناية والاهتمام والخبرة لا ينفع معها حلول مؤقتة أو تطبيقات توصيل مزدحمة لا يعرفها إلا من يكابدها في الليل والنهار.
كثيرة هي الصور والمشاهد الإنسانية الموجعة المليئة بالألم والمعاناة، والتي تتطلب أن يحتويها النظام، ويراعيها، ويتفهمها بحيث تسمح لأصحاب تلك الظروف بالحصول على مبتغاهم بكل سهولة ويسر من خلال آلية واضحة ومتفهمة وذات بعد إنساني عميق يراعي مثل هذه الحالات، ويسهل لها خدمة أحباءهم ورعايتهم والبر فيهم بطريقة نظامية وآمنة وسريعة.
هذا رجاء وأمل نرفعه لأصحاب القرار الذين نثق في إنسانيتهم وتفهمهم، وحرصهم على صحة المواطن في كل مكان في هذا الوطن الغالي.
جائحة أقضت مضاجع من قطن هذا العالم.. حاملا في قلبه الهم والغم حينا والثقة واليقين بانفراج الغمة عن هذه الأمة وأن مع العسر يسرا… نضح الكاتب كعادته بقطيرات آلام أثقلت كاهلنا لم يتم تخيل بعضها إلا بأفلام خيالية لا تمت للواقع ولكن وجدناها هاهنا وكل صرخة ألم او حَزن أو نصب كابد منها الكبير والصغير..رسم بريشة قلمه الوانها.. بوركت هذه الصحيفة بكادرها الساهر على بقاء اسمها المرصع بالقيم.. ومن ينثر بين شعابها أحرف ترصع أعماله على جدار التاريخ لتكون نورا وضاءً يعكس الوان البر حينا والالتزام حينا آخر والعمل الصالح بكل أنواعه بكل حين..