هل سيكون العالم في مرحلة ما بعد جائحة كورونا كما كان قبلها؟ وإن صح، فأي تغيير؟ أي نظام وهيكل؟ ومن سيربح أو يخسر في العالم الجديد؟
عبر التاريخ، يتغير مسار الدول والشعوب بعد الأحداث الكبرى. ففي الماضي كانت الحرب أداة التغيير. دخلت الصين وروسيا والولايات المتحدة حروبًا أهلية لتوحيدها، وتوسعت بالقوة العسكرية الإمبراطوريات الرومانية والإغريقية والساسانية والعربية-الإسلامية والعثمانية. وفي القرون الأخيرة الأوروبية البريطانية، والفرنسية، والإيطالية، والإسبانية، والبرتغالية، والبلجيكية، وآخرها اليابانية، والألمانية، والأمريكية.
وساهم في تنامي قوة هذه الإمبراطوريات استعمارها للمناطق والجزر باستغلال مواردها، والسيطرة على طرق التجارة الدولية كدرب الحرير والمضائق والممرات البحرية الدولية، من جبل طارق ورأس الرجاء الصالح وقناة بنما، إلى باب المندب ومضيق هرمز وقناة السويس.
كما تغير العالم بعد الحروب العظمى، كغزو المغول لآسيا وأوروبا، والحملات الصليبية على العالم الإسلامي، والحروب المذهبية في أوروبا والعالم الإسلامي، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وأخيرًا حركات التحرر من الاستعمار في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية.
الاقتصاد أداة التغيير وضحيته،
ويعتبر الاقتصاد العالمي أداة رئيسية من أدوات التغيير، بقدر ماهو ضحية كبرى من ضحاياه. فخلال الصراعات تنمو تجارة الحروب، ويصعد تجارها إلى مراكز القيادة، أسوة بالسياسيين والعسكريين. ومع الانهيارات المالية، تتبدل أولويات الصناعة والإنتاج والتجارة، ومعها من يعجز عن التاقلم ومن يخرج من الظل ليستغل الفراغ. فالثورة الصناعية في أوروبا جاءت بعد نهاية الحرب الدينية وضعف هيمنة الإقطاع والكنيسة، وتبدل مسارها من المنتج الحربي إلى الاستهلاكي في الغرب واليابان وكوريا ثم الصين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كما تبدلت مسارات الإنتاج والصناعة في أمريكا بعد كل انهيار مالي، في العشرينيات، والثمانينيات، وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، من الصناعة الثقيلة، الى الخدمات، الى الرقمية.
وجاءت نشأة المنظمات الدولية كنتيجة طبيعية للكوارث البشرية، فمنظمة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، ومنظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والناتو بعد الحرب العالمية الثانية، وجامعة الدول العربية بعد حرب فلسطين، ومنظمة دول عدم الانحياز بعد الحرب الباردة، ومنظمة المؤتمر (التعاون) الإسلامي بعد حريق الأقصى، ومجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي، واتحاد الدول المغاربية بعد حرب الخليج الأولى ومنظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الدولية لأمريكا الشمالية وشرق آسيا بعد الحرب الباردة، بالإضافة إلى الاتفاقيات الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية المختلفة، ولعل آخرها التحالف العسكري الإسلامي لمكافحة الإرهاب.
سلاح الرعب
ومع الحرب الجديدة على وباء كورونا يغير التاريخ مساره مرة أخرى، ليجد العالم نفسه، شرقه وغربه، شماله وجنوبه في مواجهة عدو مشترك .. عدو، غير بشري، وعتاده غير تقليدي، ولكنه أشد فتكًا من السلاح النووي. وخطورة هذا العدو أنه يملك عنصر المباغتة، والقدرة الهائلة على التخفي والانتشار السريع مستغلًا ضحاياه لحمل سلاحه. لا يفرق بين عسكري ومدني، قوي وضعيف، فقير وغني، متعلم وجاهل. انهارت أمامه حصون دول عظمى، بنفس السهولة التي اجتاح بها دولًا لا حصانة لها.
وكما في كل حرب، الاقتصاد هو الأكثر تأثرًا، سلبًا للأغلبية، وإيجابًا للأقلية. ولعل خسارة العالم لتريليونات الدولارات خلال أشهر قليلة، أكبر دليل على القوة التدميرية الهائلة لهذا العدو. فالخوف أقوى سلاح، والهيبة أشد تأثيرًا من القدرة. وهكذا أنتصر فايروس لا يرى بالعين المجردة على حضارات بشرية تطورت عبر آلاف السنين، وهزم الرعب الذي يسبقه شجاعة قوى عظمى سادت العالم بجيوشها وسلاحها المدمر. وهكذا أغلق الرعب من المجهول اقتصاديات العالم كبيرها قبل صغيرها، وأوقف الإنتاج والصناعة والنقل، وأغلق على البشر بيوتها.
لم يكن هذا الدرس الأول للتاريخ، لكن حال البشرية كما قال سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه: (إلا ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار). فبعد أن جاء المغول ثم الصليبيون بالطاعون إلى المشرق، ونشروه بين أعدائهم، وفتحوا به المدن والحصون، تكرر الأمر في كل قرن بوباء يقضي على ملايين البشر، وجاء أكثرها مع أو بعد الصراعات الكبيرة، كالحرب الدينية في أوروبا. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية انتشر وباء الإنفلونزا الأسبانية لتقتل خمسين مليونًا. ثم تكررت أشكال أخرى من الأوبئة التي تهاجم الأجهزة التنفسية وغيرها كالإيدز وإبيولا والحمى السائحية والملاريا؛ لتقضي على ملايين أخرى. ونحن اليوم نواجه وباء من نفس سلاسة الأوبئة التي عصفت بنا خلال العشرين عامًا الماضية، بدون استعداد كاف لمواجهتها خاصة من قادة العالم، الدول الصناعية الكبرى.
النظام العالمي الجديد
إذن، هل سينهار النظام العالمي كما حدث مرتان في النصف الأول من القرن العشرين، فتتفتت إمبراطوريات (كالعثمانية، والأوروبية، واليابانية) وتظهر بعدها أخرى (كالأمريكية، والسوفيتية، والصينية) لتصيغ وتدير النظام الدولي الجديد؟ وماذا عن الدول الصاعدة، كمجموعة العشرين ومجموعة الدول الصناعية السبع؟ هل ستحافظ على مقاعدها في مجلس إدارة القرن الجديد؟ أم تعود لعبة الكراسي الموسيقية من جديد؟
برأيي، أن الأمر مرهون بمتغيرات كثيرة، أهمها سرعة إيجاد ونشر علاج الكورونا، وبتقديري أن ذلك سيتحقق خلال ماتبقى من العام الحالي، ٢٠٢٠م، فالسباق محموم والتعاون الدولي غير مسبوق، والدوافع هائلة. كما أن الإمكانات العلمية والمادية لدى الإنسان لا تقارن بما كانت عليه في عام ١٩١٩ عندما كان العالم مشغولًا بحرب كونية مدمرة، وتركيزه شبه كامل على منتجات الحرب وحساباتها. فخلال مائة عام تطورت القدرة البشرية على مكافحة الأمراض والأوبئة ومواجهة تداعياتها إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخها. والعلاج الذي كان يستغرق الوصول إليه ونشره سنوات يمكن التوصل إليه في أشهر، ونشره في أسابيع.
ومن المتغيرات الهامة، قوة الدول والمنظمات، وشبكات التعاون بينها، فالعالم الذي أنهكته الحروب الكبرى، تفرغ بعدها لبناء قدرته على التأقلم والإبداع والتنمية، وبالتالي فالجواب لا، لن تسقط أنظمة وتعم الثورات وتشتعل الحروب، وينتهي العالم كما نعرفه. والجواب نعم، سيكون لما جرى تداعياته ودروسه. فهناك خسائر كبيرة ستتحملها حكومات وقيادات وتنظيمات، قد تسقط ويأتي غيرها، أو قد تتعلم من التجربة وتأتي برؤية جديدة لأولوياتها.
فالديمقراطية والرأسمالية كما هي عليه اليوم تعرضت لاختبار قاس، أثبت أنها أهملت قطاعات هامة في اندفاعها المحموم لخدمة أصحاب المال والتملق للناخبين. ولعل أكثر ضحايا هذا التوجه سيطرة الحكومات على القطاع الخاص عمومًا والصحي خصوصًا. فدول الحكم المركزي والشمولي والاجتماعي استطاعت تنسيق خطواتها وإجراءاتها ونفذت قراراتها وتعليماتها بسرعة فاقت بكثير الدول الديمقراطية والتعددية والرأسمالية بتخبطها وضعف سيطرتها على مفاصل الحكم، وقدرتها على التعامل الصارم والحازم مع الأزمة.
ومن ناحية أخرى، أثبتت بعض الاتحادات والتحالفات فشلها، رغم حجمها وقوتها وتاريخها الطويل، كالاتحاد الأوروبي، ونجحت أخرى أصغر ولكن أكثر تماسكًا وتجانسًا كمجلس التعاون الخليجي، وآسيان في تنسيق الجهود وتبادل الخبرات وتكامل المقدرات. كما تأرجح أداء المنظمات الدولية بين الضعف والنجاح المحدود، ومثالها منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية، وإن تميزت مجموعة العشرين ومجموعة أوبك تحت قيادة السعودية بنجاح فاق التوقعات.
تداعيات الأزمة
كل ماسبق سيكون له تداعياته على المدى القصير والطويل، وتأثيره على مكانة الدول والمنظمات، وتوجهات الاقتصاد الجديد. فتلك التي نجحت في امتحان إدارة المخاطر والكوارث كالصين وكوريا الجنوبية والسعودية والإمارات وفنلندا، وربما الولايات المتحدة، ستجد لها مقعدًا رئيسيًا في غرفة قيادة العالم الجديد، وستدفع الدول التي كان حققت نتائجًا ضعيفة في اختباراتها كاليابان، وإيطاليا، وأسبانيا، وألمانيا، والبرازيل، وروسيا، وإيران، وتركيا ثمنًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا على حساب مكانتها وهيبتها الدولية. كما قد تدفع الصين غاليًا ثمن تخاذلها عن كشف انتشار الفيروس مبكرًا، وأكثر لو ثبت أنها كانت ضالعة في إنتاج الفيروس في مختبراتها، وبالتالي مسؤولة عن تسربه والكوارث المترتبة عليه. وربما يعيد الاتحاد الأوروبي صياغة نفسه، ليسد الثغرات التي أدت إلى ضعف التنسيق والتكامل والاستعداد في مواجهة حرب كبرى منذ الحرب العالمية الثانية.
كما سيستعيد الزخم ذلك الجدل الأكاديمي والفلسفي والشعبي الذي كاد يحسم حول ماهية الحكم الرشيد لصالح الديمقراطية الراسمالية بنسختها الغربية. فالأنظمة الملكية والشمولية والاجتماعية بمفهومها للسيطرة على مفاصل الحكم والاقتصاد نجحت في مواجهة الكارثة فيما تخبطت أنظمة سلمت قيادها لرأس المال الخاص، واستسلمت لمحركات السوق الحر، وراعت خيارات الشارع والإعلام وصندوق الاقتراع على حساب قدرة الدولة المركزية على رعاية المواطن بدون تمييز، وتوفير احتياجاته الأساسية كالأمن والصحة والتعليم والعمل، وقيادة وتوجيه خطط ومشروعات التنمية.
الرابحون والخاسرون
وختامًا، نعم، أتوقع أن النظام العالمي الحالي سيصمد وينتصر في معركته الأخيرة مع الأوبئة، ثم يتطور ويتحول، سياسيًا واقتصاديًا، فتتقدم دول وأنظمة وتتأخر أخرى، ويتسارع التحول الاقتصادي الرقمي والذكاء الصناعي والاقتصاد المعرفي، ويزداد التركيز على الخدمات الصحية، وشبكات المعلومات والاتصالات والنقل والخدمات، وكفاءة الانتاج الزراعي والطبي والصناعي، واستدامة ومرونة وتكامل الإنتاج والتخزين والتوزيع لكافة القطاعات الحيوية.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، فما حققته من نجاح في قيادة العالم والتعامل مع الأزمة، سينعكس إيجابًا بتوفيق الله على مكانتها الدولية وموقعها في تصميم وتوجيه، وتطوير النظام العالمي الجديد. وتحقيقًا لرؤية السعودية ٢٠٣٠ ستواصل الدولة استكمال البنى التحتية للاقتصاد الجديد مع التقليل من الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل، وموازنة العلاقات السياسية والتجارية الدولية، والتركيز على الأمن الغذائي والتصنيع المحلي والاستعداد المسبق للتحديات القادمة، وتطوير مفهوم إدارة الأزمات والكوارث.
@kbatarfi