في لقاء صحبة السرداب للإخوة والأحباب بمنزل الشيخ عبد الرزاق التركي نجد كثيرًا من التجارب والخبرات الإنسانية التي تتدفق من السيرة العبقرية للشيخ أو من يستضيفهم ويتناولهم في حديثه، وفي آخر تلك اللقاءات قدّم لنا الشيخ تجربة لكفيف لا يقل عبقرية عنه، فرغم فقدانه البصر إلا أنه تمتع ببصيرة لا تتوفر لكثير من المبصرين، ومعها إرادة الحياة وعيشها بكل ما أعطاه الله تعالى من ملكات وحواس أخرى، فمضى يعمل ويجتهد ويقدم نفسه وتفوق فيما يبرع فيه بكل كفاءة واقتدار.
في ذلك اللقاء سعدنا بصحبة الناشط الاجتماعي في حقوق المكفوفين محمد سعد، وهو كفيف لكنه كفء في مجالات إبداعية عدة يراها كثيرون بحاجة لعين تبصر، ولكنه يرى بنور بصيرته ما جعله يبدع ويمارس هواياته في التصوير والمونتاج وعمل الأفلام القصيرة، ولنا أن نتخيّل حجم القدرات العظيمة الموهوبة لهذا النابغة المبدع؛ لأنه ببساطة اختار أن يعيش حياته، وأن يقدم أفضل ما عنده، بل ويدعو الجميع من مبصرين ومكفوفين أن يعيشوا حياتهم ويستمتعوا بدنياهم الجميلة.
حرمه خطأ طبي من بصره ولكنه لم ييأس ويستسلم، وإنما تغلب بكل عزيمة وإصرار على ذلك وكبر مع الوقت والزمن واكتشف ذاته العميقة، وطوّر قدراته ومواهبه بعيدًا عن عجزه البصري، وحين تفوق وأبدع وأجاد، بدأ ينقل تجربته لغيره من المكفوفين من خلال تنظيم دورات لفاقدي البصر، يمنح الأمل ويبث العزيمة والإصرار وروح الإبداع فيهم، فهو مدرب تقني لهؤلاء يفتح لهم الطرق المغلقة في هندسة الصوت، واستخدام الأجهزة الذكية وفن التوجه والحركة، واستخدام العصا البيضاء.
تلك التجربة العظيمة ينبغي أن تكون نموذجًا لفاقدي البصر أو حرموا غير ذلك من حواسهم، بل وحتى دليلًا للمبصرين في مواجهة عقباتهم وتحدياتهم، فتجربة محمد سعد بما فيها من حراك وإبداع وإلهام جديرة بأن تكون نموذجًا محفزًا لكل ما يجعل الحياة سعيدة وأكثر جمالًا وعملًا دؤوبا من أجل أن يقدم الإنسان أفضل ما لديه، ويسعى دومًا للأفضل الكامن في داخله.
حين نستمع إلى هذا الشاب المكافح يشعرنا بالكثير الذي ينبغي أن نقف عنده، ونأخذ الدروس والعبر من الحياة وطبيعة الإنسان التي تمتلك الكثير الذي نحتاج بالفعل إلى اكتشافه والبحث عنه داخل أنفسنا، فالعمى الحقيقي ألا نحاول أو نعمل على اكتشاف قدراتنا وأن نستسلم لإحباطاتنا ويأسنا، فالشيخ التركي ومحمد سعد وغيرهما ممن نجحوا وعاشوا حياتهم يظلون نماذج يجب ألا نمضي دون أن نصافح خبراتها وقوة إرادتها وعزيمتها ومعرفة تجاربها والاستفادة منها، فهم في الواقع مثال حقيقي لإرادة الإنسان، وتفوقهم يعكس الكثير من المعاني الإيجابية والدلالات العميقة لما يمتلكه كل إنسان، ولكن الفارق فقط في كيفية اكتشاف الذات وإطلاق القدرات ومواجهة التحديات على ذات النهج الذي يسيرون عليه فهم في حقيقة أمرهم استثنائيون في تجاربهم وإنسانيتهم وأدوارهم الإنسانية والمعرفية العبقرية.
0