المقالات

الحجر الصحي في السنة النبوية

الأمراض والعلل والأوبئة التي تصيب الإنسان سنة من سنن الله الكونية، وقد جعلها الله جل وعلا أنواع ومراتب ودرجات، فهي ليست على وتيرة واحدة، فمنها ما هو شديد وقعه على الشخص المصاب، شديد خطره على من حوله لسرعة انتقاله وانتشاره. ومنه ما يكون انتشاره وانتقاله بطيئًا، بل ومنه ما لا يتعدى الشخص المصاب به فلا يخشى من انتقاله ولا يحتاط لسرعة انتشاره.

لذلك جاءت الأحاديث النبوية التي توضح تعامله ﷺ مع حالات مختلفة من الأمراض، فبينما تعامل الرسول ﷺ مع الطاعون كمرض وبائي معدٍ أَلْزَم فيه بالحجر الصحي، نجده لم يتعامل ﷺمع العرنيين على أن مرضهم حالة وبائية توجب الحجر الصحي، بل سمح لهم بالتنقل، وحثهم على الخروج من مكانهم لأَمْنِه من ناحية انتقال المرض، وعدم خوفه من انتشاره، وإيذاء من حوله فلم يجد فيهم ما يوجب حجرًا صحيًّا، فوجههم للخروج منها والانتقال إلى موضع آخر لعلهم يجدون فيه المكان المناسب الذي يتحقق فيه شفاؤهم بإذن الله تعالى لا سيما وأن العرنيين لم يكونوا من أهل المدينة، ولم تناسبهم أجواؤها فربما كان المرض الذي أصابهم هو مرض يمرض به من لم يعتد أجواء المدينة، كما في حديث عائشة: (قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله ﷺ شكوى أصحابه، قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة).
فالرسول الله ﷺ _ على شح الإمكانيات العلمية المتوفرة في زمانه_ يضع أسس الحجر الصحي في مكافحة الأوبئة، ويخط لنا معالم واضحة في التعامل مع كل مرض على حدة، وما يتبعه من فرض القوانين والاحتياطات اللازمة تبعًا لطبيعة المرض، ولم يجعل الحجر الصحي قانونًا ملزمًا في كافة الأمراض، بل جعلها في بعضها دون بعض بما يتوافق مع طبيعة المرض وتأثيره وسرعة انتقاله.

فحالات المرض تتفاوت ما بين حالة المرض الشديد ذي العدوى المنتشرة والتي توجب الحجر الصحي، وبين حالة العدوى الخفيفة أو المحصورة التي تسبب مرضًا معينًا لسبب معين يمكن السيطرة عليه، ولا يكون الحجر الصحي فيه ملزمًا.
وتطور مفهوم الحجر الصحي تبعًا لتقدم العلم وتوفر الوسائل التكنولوجية الحديثة فبعد أن اكتشفت الأمراض وعرفت أسبابها وطرق انتشارها، وكيفية التوقي منها_ بعد سلسلة من البحوث والدراسات العلمية_ اعْتُبِرَ من أهم الوسائل للحَدِّ من انتشار الأمراض الوبائية، وحددت الحالات المرضية التي توجب العزل والحجر الصحي والتي لا تستدعي ذلك في كافة الحالات المرضية.
وبموجبه يمنع أي شخص من دخول المناطق التي انتشر فيها نوع من الوباء، والاختلاط بأهلها، وكذلك يمنع أهل تلك المناطق من الخروج منها، سواء أكان الشخص مصابًا بهذا الوباء أم لا.
ويعتبر مفهوم الحجر الصحي كمفهوم حديث، لم تعرفه البشرية إلا متأخرًا، ومن يطالع كتب المتقدمين يجد أن تقبل فكرة منع الدخول للبلد التي فيها الطاعون ومنع الخروج منها_ والتي ذكرت في الحديث_ أمرًا عسيرًا بعض الشيء، وربما تستساغ فكرة منع السليم من الدخول لأرض الوباء نوعًا ما، ولكن فكرة منع سكان البلد من الخروج خاصة أن منهم أصحاء قد تبدو عسيرة على الفهم().

لذلك اجتهد العلماء رحمهم الله قديمًا لإقناع المجتمع بهذا الإجراء وتوضيح الحكمة من فرض الحجر الصحي المذكور في الحديث حسب ما توفر لديهم من خبرات طبية، فذكروا أن الطاعون الغالب عدم النجاة منه، فإذا وقع في بلد والشخص بها فالظاهر إصابته به فلا يفيد الفرار منه، كما وجدوا أن في ذلك صيانة للعقيدة، فالبقاء في أرض الطاعون من الرضا والتسليم بالقدر، بتفويض الأمر لله تعالى لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يغني عنك من الله شيئاً. فقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الطاعون فتنة للمقيم وللخارج عنه).
وقد ورد عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي قال: قلت لمطرف بن الشخير: ما تقول رحمك الله في الفرار من الطاعون. قال: (هو القدر يخافونه وليس منه بد).

بل إن الإقدام عليه يعرض النفس للعدوى وانتقال المرض، قال تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195] لذلك فإن رجوع عمر رضي الله عنه ليس من الفرار في شيء، بل هو من باب اجتناب المهالك وعدم تعرضه ومن معه للخطر، أشبه ما لو كان هناك منزل فيه نار عظيمة فعدل عن الدخول فيها لئلا يحترق. كما أنه بالفرار تكثر حركته، وتناله المشقة بالخروج والسفر مما يلحق الضرر به.
وذكر ابن سينا في كتبه أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يلزم الراحة، وأن الحركة مضرة.

وقال ابن القيم :(وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية والنهي عن التعرض لأسباب التلف، وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض. فالأول: تأديب وتعليم. والثاني: تفويض وتسليم).
ومع تقدم الطب وظهور المكتشفات الحديثة لم تعد حقيقة الحجر الصحي والحكمة منه تخفى على أحد، فالشخص السليم في منطقة الوباء قد يكون حاملًا للميكروب، وكثير من الأوبئة تصيب العديد من الناس ولكن ليس كل من دخل جسمه الميكروب يصبح مريضًا.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button