لا يُعدّ التعليم عن بعد تجربة جديدة على ميدان التعليم في المملكة وإن كانت كورونا فرضته دون سابق إنذار،
وهذه التجربة من الصعوبة إصدار حكم ناجز حول نجاحها وفاعليتها من عدمه قبل أن يتم حصر مختلف فعالياتها وعمليات تنفيذها ثم دراسة النتائج بموضوعية وعبر طرق علمية؛ لأن محك النجاح في التعليم هو الناتج التعليمي.
هنا العديد من التفاعلات والمواقف والتساؤلات التي عايشناها، ونحن نتعامل مع هذه التجربة حتى قبل بدايتها تشكل في مجملها ملامح ذات دلالة وهي جديرة بالاستقراء:
-هل لنا أن نحلم بأننا سنودع التعليم التقليدي بمكوناته الكلاسيكية؛ حيث المدرسة والمعلم والطالب والسبورة والفصل والاختبار الورقي باتت من الماضي وشيئًا من ذكريات الأجيال؟
-هل لنا أن نطمئن بثقة إلى هذا النوع من التعليم ركونًا إلى تجربة هذا الفصل؟ وأننا شهدنا ميلادًا قويًا وتوثيقًا عتيدًا للتعليم عن بعد؛ حيث الرقمنة والتقنية عماده، والعالم الافتراضي عتاده؟
-هل كان الطلاب والطالبات جاهزين بالقدر الكافي للولوج إلى قلب هذه الخبرة والتفاعل معهم وهل أعدتهم مناهج وأساليب التعليم سلفًا وبشكل كافٍ ؟
– بعد مرور فصل دراسي في ظل التجربة هل تبلورت لدى المتعلمين شخصيات مواكبة لهذا النوع المستجد من التعليم ؟
-هل لنا أن نتفق أن التعليم عن بعد يتطلب طرائق تدريس ومناهج تجعل من كل متعلم مسؤولًا عن تعلمه، وتبني عقلًا متأملًا وناقدًا، وشخصية متفاعلة مع ذاتها ومع الآخرين بصورة فعالة تهتم بالتفكير انطلاقًا من حقيقة مفادها أن أساس العملية التعلمية هو التفكير الخلاق والمبدع والابتكاري.
والأمر نفسه ينطبق على المعلم
فهل أُعد المعلم بشكل احترافي ليتعامل مع هذه الاستراتيجية التعليمية ومتطلباتها لتقديم تعليم لشريحة كبيرة جدًّا في وقت واحد مع ضرورة الحفاظ على قدر عالٍ من التفاعل والحضور الذهني والتواصل الفعال ؟
-ليس سرًّا القول إنه خلال سير التجربة واجه المنظومة الكثير من التحديات التقنية، والتي جعلت من الوصول لها بسهولة وانسيابية متعثرًا واستمر لأسابيع عدة، وهذا الواقع ساهم كثيرًا في خفوت حماس وشغف كثير من الطلاب والطالبات.
-صاحب تطبيق التجربة ارتجالًا واضحًا سببه غياب الأدلة المنظمة للتعليم عن بُعد، فإذا ما اعتبرنا هذا النوع من التعليم (تجمع مهني) تحيط به العديد من التفاصيل والكثير من التساؤلات التي يشترك فيها الجميع، مثل: آليات التطبيق، وأكثرها جدوى، وكيفية تحقيق أفضل النتائج منها، ومع هذا افتقر للمرجعية، فلم تكن الممارسة لأطراف العملية ترتهن لأدلة واضحة تحدد معايير الأداء الجيد للمعلم، عدد المواد والوسائط التي يحملها الطالب في كل حصة، عدد الواجبات، لائحة سلوك الطلبة، وآليات التقويم، وماهو دور ولي الأمر ؟
وهذه الأدوات غاية في الأهمية لايمكن أن يستغني عنها أي مشروع تعليمي لضمان قدر عالٍ من النجاح.
-إغفال الوزارة لواحدة من أهم أدوات التقييم وهي استطلاع آراء المستفيدين وخصوصًا الطلاب وأولياء أمورهم، واكتفت بعدد من المؤشرات التي اعتمدتها الوزارة كمعايير أرى أنها غير دقيقة ولا يمكن اعتبارها مؤشرًا علميًا يقيس بدقة حدوث عملية معقدة بحجم عملية التعلّم والتي تتحكم في حدوثها عوامل متعددة.
– بالغت وزارة التعليم في تقديراتها لنجاح تجربة التعليم عن بعد حين اعتمدت على تقارير المدارس ومكاتب وإدارات التعليم، والتي كانت أشبه بسباق للأرقام وماراثون للنسب ورفع المؤشرات مع إغفال تام للنواتج.
وتظل تلك الأرقام مهما بلغت دقتها تمثل وجهة النظر الرسمية، ولا تفصح عن وجهة نظر المستفيد كونها تقدم وجهة نظر مقدم الخدمة كما تبلورت أمامه.
– اعتمدت الوزارة عدد الزيارات للمواقع التعليمية والمنصات مؤشرًا والتقيبم، وهذا المؤشر قد يعطي نتيجة خاطئة فالدخول للموقع لايعني بالضرورة حدوث عملية التعلم، بل المؤكد أنه مقياس يفتقر للدقة ولا يعتبر مؤشرًا دقيقًا يقيس نجاح التجربة.
-من التحديات التي واجهت التجربة عدم قدرة وصول شريحة من الطلاب والطالبات الوصول إلى المنصات لأسباب تتعلق بتوفر خدمة الإنترنت، وقد ذكرت تقارير صحفية منشورة أن الآلاف من الطلاب لم يستطيعوا الحصول على خدمة التعليم عن بعد، وهو أمر متوقع كون المملكة بلدًا مترامي الأطراف، وهناك العديد من المناطق التي تنعدم فيها خدمة الإنترنت أو يكون الوصول إلى الشبكة محدودًا وضعيفًا.
– هناك شرائح تعليمية قد يكون تقديم التعليم عن بُعد لها أمر يكتنفه الكثير من الصعوبة والغموض، وربما الافتعال وخصوصًا بعض فئات ذوي الاحتياجات الخاصة وطلاب الطفولة المبكرة.
-غاب في تعميم الوزارة بشأن تعليق الدراسة ما يفترض أن يكون ثانيًا، وهو أن يقوم الجميع بمتابعة أعمالهم عن بعُد … كما أن الوزارة ساهمت وبشكل كبير في عدم اكتمال نجاح هذه التجربة والتي يمكن البناء عليها مستقبلًا، عندما صرح الكثير من منسوبيها بعدم إلزامية الدخول على هذه المنصات، وجعلت الأمر على سبيل الاختيار، بل إنها ظلت عبارة مكتوبة على بعض المنصات حتى الأسبوع الثاني عشر.
-الإرباك الذي تسببت فيه الوزارة
للإدارات التعليمية عندما أكدت على عدم إلزامية الدخول للمنصات، وأنه اختياري، ثم قامت بإصدار ترتيب لتفعيل المنصات كان غير مبرر ويمكن تلافيه.
-الظهور الإعلامي لبعض منسوبي الوزارة لم يكن دقيقًا خصوصًا عند الحديث عن تمكن ستة ملايين طالب وطالبة من الدخول على هذه المنصات خلال عشر دقائق !!! .
-وزارة التعليم في حقبة سابقة كانت ترتاب من التعليم عن بُعد بدليل عدم اعتماد مخرجاته للقبول في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي فهل سيتغير هذا الموقف من التعليم عن بُعد الآن بعد أن عايشته الوزارة، واطمأنت إليه ووقفت على مستوى مخرجاته ؟
ولأنها تجربة أولى فمن الطبيعي أن تواجهها التحديات ويلزمها التحسين المستمر، لكن من المهم أن لا تركن وزارة التعليم إلى تقييم التجربة والحكم عليها إلا عبر أدوات تتمتع بالدقة والمصداقية العالية.
والأهم أنه أصبح لزامًا علينا أن نعيد النظر في مشروعنا التربوي بشكل تكاملي، يكون مبنيًا على فهمنا لتحديات الواقع ومتطلبات المستقبل وتطوراته المتسارعة حتى نوفر لجيل الرؤية تعليمًا يوازي حجم ما تقدمه القيادة الرشيدة من دعم سخي لهذا القطاع بما يحقق تطلعات الدولة لأجيال الرؤية بتقديم تعليم نوعي يؤهلهم لمستقبلهم الذي يتطلب المزيد من الوعي بمتطلباته؛ لأن أي خلل في عملية تعلمهم هو فاقد تعليمي وخسارة لإبـداع جيل كامل.
والمستقبل يحتاج مدرسة لها مواصفاتها الخاصة التي تشبهه، فهي مدرسة غير تلك التي ألفناها والتي تقدم تعليمًا معلبًا.
نحتاج مدرسة تكون مختبرًا حقيقيًّا للبحث والتجريب، ومشغل ابتكار، وفـضـاء للتعلم المستمر، مدرسة قادرة على تحويل صفوفها إلى مشاغل ومحترفات، وقادرة على جعل بيوتنا أماكن تعلم داعمة تنبض بالحياة، مدرسة فاعلة في خلق شراكة كاملة مع المنزل
مدرسة تعرف جيدًّا مايحتاجه السوق والمصنع وميادين العمل ومراكز البحث، فتعدّ متعلمًا قادرًا على صوغ معادلة بناء الوطن ويخوض معركة المستقبل بثقة.