هاتفني إحدى صباحات الأسبوع الماضي زميل عزيز وغالٍ من عاصمتنا الحبيبة مدينة الرياض، وهو من أقراني وزميل دراسة، ويتمتع بأخلاق فاضلة، ويعتلي وظيفة مرموقة في إحدى الوزارات، ولا يمل الحديث معه.
إلا أنني وقت اتصاله كنت مشغولًا جدًّا في العمل بإعداد بيانات دقيقة لا يمكن متابعتها أثناء حديثي معه وفقًا لقول الله تبارك وتعالى:
(مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).
فتوقفت عن العمل لأصغي له، ومع أن الحديث كان شيقًا كعادة صاحبي فقد تناولنا الكثير من الذكريات باعتباره من إحدى قرانا المجاورة بمنطقة عسير، وكان تواجده بالرياض بحكم عمله هناك.
نقلت لصاحبي ما أمكن من أخبار قرانا، ولكنه يبدو جالسًا لي على ركبه ونصف ومتكئًا برحابة صدر، وظن أن بي مثلما به من متسع الشجون، فألح في معرفة كل التفاصيل عن قرانا والتحديثات التي تناولها المجتمع بكل قرانا التي تزيد على خمس عشرة قرية من تهامة والسراة، ثم بدأ يسأل عن الإعدادات اللاحقة كاملة؛ مما دعاني لحك رأسي وأذني والاعتذار منه بإنهاء المكالمة لوجود عمل مهم لدي..!!!!
فقبل اعتذاري مشروطًا منه بالاتصال به لاحقًّا لإكمال الحديث والحمد لله أنه لم يطلب مني كفيلًا يلزمني بذلك.
لكنه أفادني في نهاية المكالمة بجملة مفيدة جدًّا طالما طنطنت في أذني من قبل، وهي لب الموضوع لأنها توحي بمعنى فضيل جدًّا؛ حيث قال:
(ويل للشجي من الخلي)
وهي جملة تدل على أن المشغول لا يشغل من قبل المتفرغ كمثلي ومثله، ومن الممتع أنها أتت منه لأقول له بما في خاطري بصمت. بفمك ندينك…!!!!!
عندما أنهيت عملي بحثت فيما بعد عن معنى تلك الجملة الجميلة، وهي عنوان مقالي فوجدها من الأمثال العربية الشهيرة والقديمة جدًّا،
فالشجي تعني: المشغول.
والخلي تعني: الفارغ.
وهناك من فسرها بالقول:
ويل للمهموم ممن لا هم له.
وقد تغنى بها بعض الشعراء سأورد منهم على سبيل المثال.
وكم أشكو للأهية غرامي.
فويل للشجي من الخلي.
شعر ابن النبيه.
أتيه صبابتًا وتنيه حسنًا
فويل للشجي من الخلي.
شعر سبط ابن التعاويذي.
وللزهراء ميل هوى وحب
فويل للشجي من الخلي.
شعر محي الدين بن عربي…. إلخ
ذلك المثال الرائع الذي فك قيدي من تلك المكالمة التي تسببت بتأخير بعض إجراءات عملي يقابله أمثال دارجة كثيرة بمملكتنا الغالية.
ففي الحجاز مثلًا يقال:
(الفاضي يعمل قاضى)
يعني أن المتفرغ ليس له همًا إلا نقد البشر وتقييمهم.
وبالمناسبة فقد سمعت ورأيت ذلك في فراغ بعض أهلنا المتقاعدين الذين سأصطف إلى جانبهم قريبًا إن أوتيت مدًّا من العمر ، وأرجو أن أجد ما يشغلني لكي لا أحذو حذوهم فلم يكن لبعضهم هم أكثر من نقد السارح والرايح…!!!!
ولعلي أنادي من هنا لحكومتي الرشيده الغالية على قلوبنا بأن ترحم عزيز قوم ذل.
وتجعل لمواطنيها الأجلاء المتقاعدين الذين أمضوا ثمرة جهدهم في خدمة وطنهم ومن حقهم أن يكون لهم أندية وميادين يمارسون فيها أنشطتهم، وتشغل وقت فراغهم بالنفع والعطاء فلا يعني التقاعد نهاية العطاء …!!!!
نعود لمثلنا الشجي فيقابله بقطرنا الجنوبي القول:
(وقعت خالي يا فلان )
أي أنك يا فلان خالي البال مما يشغلك فلا تشغل المشغول وكف اذاك…!!!
وفي شرق بلادنا يقال:
إلي ماعنده مهنه يلعب في الدهنه.
ويبدو المعنى غزيرًا.
وفي الوسطى يقال:
الفاضي غمة المشتغل.
وفي ذلك نصح جاد لا يحتاج لتفسير..!
إن أبحرنا لمصر العرب فقد أعجبني مثلهم المشاطر:
(يامشغول بهم الناس همك لمين خليته)
ولعل الخافي أعظم بما ينص لردع الشجي عن الخلي.
ثقافة مجتمعنا في الغالب تنظر بأن اعتذار تأجيل الاتصال أو ربما اعتذار عن قبول الزيارة حينما يكون وقتها غير مناسب ننظر لكل ذلك باستحياء بينما الأمر عادي، ومن أبسط الحقوق..!
والأصل أن يقبل الاعتذار بصدر رحب.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).
عنوان رنان طنان سن الحقائق وبث سلسال معبهر من العوائق الفعل فردية ومجتمعية في شتى صورها …
حاكيت مشاعرنا بتطرق عميق في معناه …
اذ …يكفي العنوان ابحاراً فكيف بالخوض فيه?
زد لنستمتع •