في إحدى سفراتي كنت متوجهًا إلى مدينة بتسفيلد الأمريكية في رحلة عمل؛ ويمكن الوصول إلى هذه المدينة بالسيارة عن طريق مطار نيويورك أو مطار بوسطن؛ فوجدت من المناسب أن أهبط في مطار نيويورك؛ لكي أقضي بها بعض الوقت وشراء بعض الهدايا، وأنا في طريق العودة.
كانت الرحلة مباشرة من الرياض إلى نيويورك. أقلعت الطائرة ولم يكن بالمقصورة التي أجلس بها سوى عدد محدود من الركاب. فبعد أن أطفأت إشارة ربط الأحزمة هممت بأن أهيئ مقعدي كي أنام بعض الوقت. قاطعني أحد الركاب بعد أن قام من مقعده، وجلس بجانبي، سلم، وعلى محياه ابتسامة وبشاشة، بادلته التحية والابتسامة ثم تعارفنا بالأسماء.
استأذنني كي يمضي بقية الرحلة بجانبي لتمضية الوقت بعد أن اعترف لي بأنه لا يستطيع النوم في الطائرة مهما كانت شدة حاجته للنوم. رحبت به، وبعد أن أنهينا جميع المواضيع التقليدية كالعمل وأفراد الأسرة والمدينة والسكن، توقفنا عن الحديث فترة وجيزة وقبل أن تغفي عيناي فإذا به يسأل هل والداك على قيد الحياة، فأجبته بنعم -ولله الحمد- وكان ذلك قبل وفاة والدتي -رحمها الله- وأسكنها فسيح جناته. ثم استغربت منه السؤال بهذه الطريقة. أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال: إياك ثم إياك أن تعارض قرار يتخذه والدك لإسعاد نفسه في ما بقي له من العمر؛ ثم استطرد قائلاً أبي مات كمدًا… نعم هذا ما حصل. أبي عمل بجد وصنع لنفسه ولنا ثروة ليست بالهينة. وبعدما استكانت له الأمور وهو في نهاية العقد الخامس من عمره تزوج في الخفاء من إحدى المقيمات العربيات، واللاتي يعرفن بحسن التبعل للزوج. بعد زواجه لوحظ على الوالد البهجة والسرور واختفاء الضغوط النفسيه التي كان يسببها له العمل، وأصبح لديه متسع من الوقت لكي يكون قريبًا من الكل. وزادت عنايته الشخصية واهتمامه بمظهره الخارجي، وكنا جميعًا سعداء بهذا التحول الإيجابي في حياته. وفي أحد الأيام استدعتني الوالدة، وأخبرتني أن الشك خالجها بعد التغير الكبير في نفسية وشخصية الوالد، وطلبت مني التقصي لأنها تكاد تجزم بوجود امرأة أخرى في حياة أبي؛أخذتني الحمية لأمي … ولا أخفيك دخلني بعض الخوف والطمع في ثروة أبي، فلم أشأ أن يشاركنا فيها أحد بعد وفاته. اجتهدت في الموضوع إلى أن اكتشفت أن شكوك أمي في محلها. اجتمعت بأمي وإخوتي، وأطلعتهم على الأمر الذي كان مفاجأة للجميع إلا أمي.
جلسنا مع الوالد للضغط عليه للتخلي عنها، رفض رفضًا قاطعًا ثم ذهبنا إلى أعمامي وأخبرناهم بالأمر ولم يتقبلوا ما فعله أبي ومارسنا جميعًا ضغوطًا كبيرة على أبي حتى طلقها. شعرنا بنشوة الانتصار على زوجته ولم نعلم أننا آذنا بنهايته… فلم يعد كما كان في سابق عهده حتى قبل أن يتزوج مؤخرًا. ولم يعد يهتم بأمر التجارة فلقد تساوى لديه الربح والخسارة. وما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأت عليه علامات الوهن، وانكفأ على نفسه في غرفته إلى أن وافته المنية.. نعم لقد مات كمدًا.
أيها الأبناء رفقًا بآبائكم بروا بهم، ولا تعترضوا سعادتهم بعد أن بذلوا الغالي والنفيس لإسعادكم؛ ولكي تصبحوا ما أنتم عليه من صلاح وسمو وعزة نفس وسعة رزق. ولربما قصر أبوك على نفسه في مرحلة من مراحل عمره كي لا تشعر أنت وإخوتك بالعوز والنقص. ولنكن لهم عونًا وسندًا في تحقيق كل ما يرجونه فيما تبقى لهم من العمر.
يعني ماكان يسعده الا المقيمة العربية كان صام وصلى واعتكف لكن الميت ماتجوز عليه إلا الرحمة والمقال مايدعو للبر ?
سرد رائع ولو تعلم النساء قدر حب الرجال لهن لعرفن لماذا كافأ الله الرجال في الجنة بالحور العين
تحياتي
لا نريد ان نموت كمدا.
كم نحتاج لمثل هذه المقالات الجدية في الإحساس بمشاعر الوالدين وطرق التعامل معهم .. شكرا للكاتب وشكرا للصحيفة ..
تحياتي للكاتب في طرحه المتميز للموضوع بإسلوب شيق، ممررت بهذي التجربة مع والدي وأؤيد ضرورة وقوف الابناء ودعمهم لكبار السن فيما يسعدهم ، هذا اقل القليل من رد الجميل لهم
الله
ما احلى الصدق في هذا المقال..
وما أطيب هذا الأب وما أقسى هؤلاء الاقرباء..
لنترك الآخرين في سعادتهم..حتى لا نندم بعد فوات الآوان..