مع دخول شهر رمضان المبارك في كل عام يتعاظم نشاط الجمعيات الخيرية لطلب التبرعات وتوزيع السلال الرمضانية ووجبات الإفطار، وتتزايد الأعمال الدعائية والتسويقية متصدرةً المشهد الرمضاني، ليس للجمعيات فحسب، بل حتى لبعض المحّال والمطاعم والمطابخ والأفراد، في سيل عارم من الإعلانات عبر وسائل التواصل المختلفة والقنوات الأخرى المتعددة، مستغلة هذا الموسم الروحاني لاستجداء المتبرعين والراغبين في إنفاق أموالهم بشكل منظم وسليم طلبًا للأجر والقبول من الله العظيم، إلا أن تزايد هذه الإعلانات وتعدد أشكالها وعشوائيتها يضع علامة استفهام، ويجعل المرء في حيرة من أمره عن مدى مصداقيتها.
فبالنسبة للجمعيات الخيرية، وبالرغم من أن معظم إعلاناتها تؤكد بأنها معتمدة ومصرحة من الجهات الرسمية، إلا أنه لا تزال هناك ضبابية تعتري بعض برامجها وأنشطتها وإعلاناتها، وتسبب إشكالية لدى الراغبين في التبرع، عن مدى استطاعتها وجديتها في تحقيق أهدافها الأساسية وفي تقديم عمل خيري يتمتع بمستوى عالٍ من الثقة، فلا تزال العديد من تلك الجمعيات اعمالها شبه مجهولة؛ إضافة إلى العشوائية التي تعتري عملها في معظم الأحيان.
ففي الغالب نجد أن معظم أعمال تلك الجمعيات عبارة عن اجتهادات أفراد غالبًا ما يكونون متطوعين، ومعروف أن صفة التطوع في مجال أي عمل، تعطي صاحبها إحساسًا بأنه غير ملزم بالعمل، ولا يمكن أن تفرض عليه آلية محددة، فهو يقدم شيئًا من ذاته دون أدنى مسؤولية، وهنا تصبح معظم الأعمال اجتهادية، ولا تخضع لعمل مؤسساتي، في حين أن تلك الجمعيات بشكل عام لابد أن تكون أقرب إلى مؤسسات المجتمع المدني، فهي مؤسسات قائمة بذاتها، ولها مجلس إدارة، ومسؤولون وموظفون لهم رواتب شهرية، وربما يتم صرف أكثر من نصف إيرادات الجمعية على أولئك الموظفين، فيفترض تفرغهم التام للعمل حتى يؤدوا دورهم بشكل جدي ومنظم.
إضافة إلى ذلك فإن عدم وجود لائحة محددة وموحدة لتلك الجمعيات الخيرية، قد يكون سببًا في اختلاف الرؤية والأهداف من جمعية لأخرى، ما يجعل الأمر متروكًا لإدارة كل جمعية بما يخدم أهدافها الخاصة، ويتيح لها استغلال تلك المرونة الممنوحة لها وتبدأ بالتوجه لخدمة مصالح فئات أو توجهات محددة ودعهما، ولو بصورة غير مباشرة، وكل ذلك يعني أن مستوى المصداقية والشفافية والوضوح الذي يجب أن يتسم به العمل الخيري أصبح معرضًا للتجاوزات، مما سيكون له تأثير سلبي ليس فقط في تلك الجمعية، بل يمتد إلى النشاط الخيري بأكمله، وعلى مدى الثقة بكفاءته وقدرته على تحقيق متطلباته والإسهام في ارتقاء الخدمات الخيرية والاجتماعية والإنسانية في المجتمع كله.
وفي اعتقادي أن غالبية المتبرعين يجهلون عمل تلك الجمعيات وغير واثقين من اعتمادها لدى الجهات الرسمية، بسبب عدم وجود لائحة واضحة لها، مع عدم وضوح مرجعيتها وإلى أي جهة تتبع ؟ هل هي تابعة لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، أم لوزارة المواد البشرية والتنمية الاجتماعية أو غير ذلك .. إضافة إلى عدم وجود معايير واضحة لدى الجهة المشرفة على تلك الجمعيات الخيرية تمكنها من تقييم توجهات كل جمعية، والتأكد من مدى التزامها بأهدافها الأساسية، ومتابعة كافة إجراءاتها، بمعنى أن تظل المتابعة مستمرة ولا تنتهي بمجرد حصول الجمعية على التصريح.
لقد باتت الضرورة ملحّة لتنسيق عمل الجمعيات الخيرية؛ خاصة في ظل العدد المتزايد منها، والتي ليس ثمة لوجود نشاط لأكثرها إلا في هذا الشهر الفضيل، فلن تنجح مخرجاتها إلا بنجاح الأسس التي تبنى عليها، فالأمر يستدعي ضرورة توحيد العمل الخيري والإشراف عليه من قبل جهة محددة ومعلومة لدى الجميع، وعمل قاعدة بيانات للجمعيات توضح نشاط كل جمعية لتمكين المتبرعين من اختيار النشاط الذين يرغبون بالتبرع فيه بثقة واطمئنان، وقصر الإعلان عنها على الجهة الحكومية المشرفة، لكي لا يترك المجال لكل جمعية بالإعلان بطرق اجتهادية وعشوائية تضعف من مصداقيتها، بل ولماذا لا يتم دعم تلك الجمعيات أو السماح لها بإقامة مشروعات استثمارية وتجارية ووقفية تشكل مدخولا لها تعتمد عليه في تفعيل وتمويل برامجها ومشروعاتها الخيرية، عوضًا عن الاستجداء المستمر، مع عمل قاعدة بيانات للمستفيدين ترتبط بالأنظمة الإلكترونية، لتتمكن من الوصول لهم في أماكنهم وبدون اضطرارهم إلى الحضور أو اللجوء والاستجداء، فالقضية هنا ليست قضية صدقة ومعونة مالية أوعينية تقدم للفقير بقدر ما هي قضية طبقة مجتمعية لابد أن تُدعم، ويُرتقى بها حتى يتحول أفرادها إلى أعضاء فاعلين في المجتمع، خاصة وأن هناك أسرًا عفيفة تأبى عليها عزة النفس أن تقف على أبواب الجمعيات.