رجلٌ يحوي موسوعة ثقافية كبيرة في عقله وتاريخية في ذاكرته وخبرة اجتماعية نادرة، يروي تفاصيلها لصحيفة “مكة” الإلكترونية في السلسلة الرمضانية المتجددة والتي تأخذ القرّاء الكريم للإبحار في جماليات الماضي وروعة الحاضر وإشراقة المستقبل.
وضيف حلقتنا هذا اليوم، الدكتور عدنان الفيروزي، للحديث عن محطات هامة في حياته، بدأت بالكفاح من أجل التعلم وتحقيق الغاية وكي لا يرى دمعة أبيه التي أعياها الفقر مرة أخرى، فعمل في مجالات شتى وانقطع عن الدراسة كثيرا من أجل تجميع الرسوم، فكانت خيرًا له وزادت من خبراته وقدراته لتحقيق طموحاته وأحلامه.
وفي هذا الحوار الشيق، يفصح ضيفنا عن الكثير من المواقف الشخصية الحزينة والمفرحة والقاسية والهادئة، فضلًا عما يراه في مهنة المحماة التي قضى سنوات طويلة من العمل فيها ثم قرّر الهروب منها لبشاعتها وخطورتها على مصير البشر أمام القضاء، وهنا تفاصيل اللقاء:
1- في البدء نتعرف على ابن مكة؟
أولا – شرفت بلقائي هذا مع شخصكم من خلال هذه الصحيفة الغراء صحيفة مكة الإلكترونية. واسمي عدنان بن ماجد بن عمر الفيروزي – من مواليد ١٥ /٥/ ١٣٨٣هـ بحي السلامة بمدينة الطائف بحكم انتقال مقر عمل والدي إلى مدينة الطائف في الفترة الصيفية حيث كان رحمه مديراً عاماً لمصلحة عين زبيدة والعزيزية بمكة المكرمة، وترتيبي الحادي عشر بين إخوتي أما بقية إخوتي الذين يكبرونني هم من مواليد جرول بمكة المكرمة توفي والدي عام ١٣٩٧هـ وأنا في عمر الرابعة عشر وأكملت تعليمي في كنف والدتي وشقيقي الأكبر هاني_ يرحمهما الله_.
متزوج ولله الحمد ولدي ولدان وبنتان أكبرهم هاني حاصل على درجة الماجستير في الهندسة المعمارية من الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل بشركة أرامكو، وأصغرهم إبراهيم خريج هذا العام في الإخراج السينمائي من جامعة “UBT” ولي عشرة أحفاد حفظهم الله جميعاً.
2- في أي حارة كانت نشأتكم د. عدنان؟
نشأت في حارة جرول بشعبة المغاربة حتى سن الخامسة من عمري إلى أن انتقلت أسرتي إلى حي الششة بمكة المكرمة.
ومع ذلك كان ولا يزال ارتباطي بتلك الحارة القديمة حيث كنت أنا وشقيقتي التي تكبرني ندرس في روضة بحي العتيبية نهاية نزلة شارع الحجون لا يحضرني اسمها الآن ولكن أذكر موقعها الذي كان خلف أستوديو (النجوم) آنذاك.
3- أين تلقيتم تعليمكم؟
نعم، درست حتى الصف الثالث الابتدائي في مدرسة عثمان بن عفان الابتدائية بحي الششة وكان مديرها آنذاك الأستاذ الهميم، وكان أستاذي في الهجاء الأستاذ د. إبراهيم الدعيلج، والأستاذ محمد السميري، ومدرس التربية الرياضية الأستاذ محمد لمفون كابتن المنتخب ونادي الوحدة لكرة اليد، إلى أن افتتحت مدرسة الملك فيصل النموذجية بحي أم الجود انتقلت أنا وشقيقي المهندس عمر الذي كان في الصف الأول المتوسط وأنا بالصف الرابع الابتدائي، ثم واصلت بتلك المدرسة تحت إدارة الأستاذ القدير : زاهد إبراهيم قدسي _ يرحمه الله _ حتى أنهيت المرحلة المتوسطة، ثم انتقلت إلى مدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية ( العزيزية ) إلى أن اجتزت الصف الأول، ثم انتقلت إلى الطائف بثانوية هوازن حصلت على الصف الثاني، ثم لحقت بشقيقي المهندس عمر الذي كان قد ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية من قبل وزارة الدفاع والطيران، وهناك أكملت بقية حياتي التعليمية.
4- ماذا بقي في الذاكرة من أحداث عشتم معها عراقة الحارة؟
لم تخلو الذاكرة من أي شيء من تلك الأيام رغم حداثة سني. ذلك الزمن الذي عشت فيه بحارة شعبة المغاربة إلا أن تلك التفاصيل تؤرق تعايشي مع هذا الزمن الذي طغت الماديات فيه على كل ما هو إنسان من مشاعر وتعاطف وعادات حتى أصبحت حياتنا أشبه بآلة حاسبة كل شيء فيها رقمي ! فلا زلت أذكر تلك الخالة من الجيران التي كانت تفصل لنل سراويل العيد المشتغلة( السبع إبر) في ذلك الجبل الذي كنا نتسابق للصعود إليه إلى أن نصل إلى بيت خالتنا( خديجة) وهي بمجلسها ( بالصفة) وبيدها ( البيطار) ذلك القرص الخشبي الذي تحيك عليه ملابسنا، ولازلت أذكر بيت الخالة (غالية) أسفل الحارة وقبل فرن العم محمد فران التي كنا نشتري من ثلاجتها كاسات الآيس كريم ، ولا تدعنا نبرح باب بيتها حتى نعيد لها الملعقة وكاسة (التوتوا) النحاس. ولازلت أذكر ابتسامة العم رافد بن عوض الأحمدي الذي كنت أجلس بجواره وهو يسوق وايت الماء التابع لمصلحة عين زبيدة وهو يقول لي عندما يجد العم الشريف فيصل العبدلي على تلك الصخرة أمام بيته وهو في حالة استكنان مع براد الشاهي : ( شوف عمك فيصل إيش راح أسوي فيه) فيأخذ مسار الاستدارة بالوايت باتجاه تلك الصخرة؛ ليقطع مزاج وروقان العم فيصل الشريف فتشب بينهما المناوشات الضاحكة التي لا ينبعث منها إلا كل حب وود، كذلك صرخات العم وصل المغامسي وصداها بوسط الديوان ببيتنا وهو يهلي ويرحب بالضيوف وحينما نهرع؛ لنسلم على القادمين لا نجد أحد فنسأله بمن ترحب؟ فيرد مجيباً ( لا بس استوحشت للضيوف في غياب الشيخ ) يعني والدي يرحمهم الله جميعاً.
5- في مرحلة الطفولة العديد من التطلعات المستقبلية.. ماذا كنتم تأملون حينها؟
بلا شك وكأي ابن يرى في والده القدوة الطيبة له فقد كنت أتطلع إلى ما كان عليه وكنت أتمنى أن أكون في أي مركز قيادي ولكن بسلطة دون تسلط فقد كنت أشاهده وهو يزاور العمال في بيتوهم ويجالسهم على سفرته، ويسامرهم ويسامروه بكل ود وحب دون أن يستغل تلك العلاقة أحد منهم للآخر فيكون الإنجاز مضاعف.
6- تربية الأبناء في السابق بنيت على قواعد صلبة ومتينة.. ماهي الأصول المتعارف عليها في ذلك الوقت؟
كانت هناك مدرستين؛ لتربية الأبناء ، الأولى – تتولاها الأم وهي تعليم التعامل مع الوالدين والأخوان والأقارب فكانت الوالدة _ يرحمها الله _ تعلمنا أن نصطف في استقبال الوالد عند وصوله إلى البيت وتقبيل يمينه ورأسه وبالترتيب دون أن يتقدم الأصغر على الأكبر منه ولا يزاحمه ولا يباريه في خطواته، ولم يكن ذلك مقصوراً على الوالد بل يسري الأمر بيننا كأخوة بنفس الأمر كذلك مع الأقارب، كما كان محظوراً الاتكاء أثناء الجلوس أمام الأكبر سناً، وعدم الجلوس على سفرة الطعام قبل جلوس الأكبر ورفع الصوت أثناء الحديث أو الضحك بالصوت العالي في وجود من هو أكبر منك.
ثانياً- مدرسة التعامل خارج العائلة: كانوا يتولوننا أقرب المقربين للوالد منهم العم رافد بن عوض الأحمدي، والعم الشريف فيصل بن شاهين العبدلي، والعم وصل بن عيسى المغامسي يرحمهم الله _فكانوا يعلموننا الإنصات لأحاديث المشايخ، والأدباء، وكبار المسؤلين أثناء حضورهم لمجلس الوالد رحمه الله _ والاستفادة من خبراتهم وتدبر قصصهم وكيفية أدب الدخول في الحديث إن لزم الأمر، وتقديم جل الاحترام لهم وإكرامهم، كانت تلك الأساسيات. أما المسلمات فكانوا يعلموننا أن كل من تتعامل معهم في خارج المنزل يجب أن نتقبل منهم الانتقاد المفيد؛ لتقييم سلوكنا لا نأخذه على مأخذ الازدراء فكل من ينتقد تصرف لك فهو يريد تقويمك عن الخطأ لا لازدرائك فكنا نتقبل النصح والتقويم من البائع والخياط إذا انتقد طلبنا موديل حديث لثوب العيد، والحلاق إذا طلبنا قصة حديثة لا تليق بمجتمعنا.. ولك أن تقيس على ذلك.
7- في تشكيل صفاتكم ساهمت الكثير من العادات والتقاليد المكية في تكوينها ما أبرزها؟
الكثير يقولون عنها عادات بينما أرى أنها ” روحانيات ” فما التزاور والتسامر؛ إلا لزرع المحبة والألفة ترى حصادها حين نقف سوياً في وجه المحن. ويظهر ذلك جلياً في أفراحهم وصنع النسيج الواحد بين المجتمع كان الساتر المنيع لأعراضهم. أذكر منها على سبيل المثال تناقل أطباق الطعام بين البيوت والذي يتم على أيدي الأبناء يعني ذلك دخولك لذلك البيت ليس مجرد أنك مرسول بل أنت ابن ذاك البيت وعرضه أصبح عرضك وأهله أهلك فلا تقبل عليه مالا تقبله على أهل بيتك.
8- الأمثال الشعبية القديمة لها أثر بالغ في النفس..ماهي الأمثال التي لازالت باقية في الذهن؟ ولماذا؟
هي كثيرة ولك فيها ما يزرع في سلوك الإنسان؛ ليكون مبدأ في حياته وتعامله، فهناك مثلا كنت دائماً ما أسمعه من شقيقي ومعلمي الراحل هاني يرحمه اللهوهو ( أهلك ولوتهلك ) كان يقوله كلما واجهته مشكلة من أقرب الأقارب فكنت امتعض من صبره وتسامحه وتجاهله لتلك التجاوزات وأحاول أن أفهم سر ذلك التصرف فكان جوابه دائماً (أولائك أهلك الذين كتبهم الله علينا وليس بوسعنا التبرؤ منهم أو تجاهلهم بل علينا أن نقف معهم مهما صدر منهم من إساءة، أو نقصان، أو نكران فإن ما تقدمه هو لطلب رضا الله أولاً وأخيراً، وليس لرضا الإنسان، و ما تقدمه ثق بأن الله لن يخذلك) فكان قوله سببا في زرع ذلك المثل (أهلك لاتهلك) في نفسي؛ ليكون نهجا في حياتي.
وكما سبق وأن ذكرت لك أن هناك كثير من الأمثال والتي أقرب ما تكون إلى الحكمة التي يستفيد منها الإنسان فإن بقى لي شيء من المساحة المتاحة فأسمح لي أن أروي مثلا كان راسخاً في ذهني من جدتي لأمي _ يرحمهن الله_ عندما تشتكي لها والدتي من غموض والدي، وعدم البوح لها بما يثقل كاهله من هموم رغم أنه يبدي على وجهه السعادة، ويحاول رسم ابتسامة أظنها زائفة على محياه فكانت تجيبها الجدة بقولها يا ابنتي: (صدور الرجال صناديق مقفلة) وكنت أؤمن بذلك المثل؛ لأن كبرياؤنا نحن معشر الرجال يدفعنا لكتمان أحزاننا وكل مايثقلنا، ونرسم على وجوهنا سعادة وابتسامة زائفتين؛ حتى لايظهر منا أي جانب من جوانب الضعف. حتى كنت يوماً في جناب صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في مجلسه العامر بجدة، وكان قادم لتوه من الرياض وقرأت في عينه جديد من الشعر لم يكن في حضرة جنابه سواي فحضره فسألته عن جديده فقال سموه: بالفعل كتبت وأنا في الطائرة مطلع لقصيدة ( الونة ) ولم أكملها بعد، فألحيت عليه أن أسمع ماكتب منها فتفضل علي بها إلى أن وصل إلى البيت الذي قال فيه: ( أون وكلً يحسب إني أغنى .. عليل وكل يحسب إني مداوي) حينها قلت لسموه ( لقد كسرت الصناديق المقفلة) ياسيدي.
9- الحياة الوظيفية.. أين كان لشخصكم القدير أول بداياتها؟ وآخرها؟
كان تعليمي خارج المملكة على فترات متقطعة؛ لأنني كنت أدرس على حسابي لذلك كنت أعمل في جهة أجمع منها ما تيسر؛ لدفع مصروفات التعليم فأول عمل التحقت به كان عام ١٤٠٠ للهجرة في شركة النقل الجماعي على وظيفة مرحل، ثم الخطوط السعودية بالحجز الآلي على وظيفة موظف حجز، ثم أمانة العاصمة المقدسة ببلدية المسفلة على وظيفة مدير مكتب رئيس البلدية الأستاذ مسفر الدهاس _ آنذاك ، ثم مدير مكتب شركة الموارد بمكة المكرمة، ثم مديراً للعلاقات العامة والحكومية بمصنع مكة للنسيج، إلى أن أكملت دراستي الجامعية وحصلت على رخصة المحاماة نظام إجازة الوكالات. وقتها استقليت بمكتبي في جدة ومكة المكرمة وواصلت تحصيل الدراسات العليا من خلاله حتى حصلت على درجة الدكتوراة في فلسفة القانون عام ٢٠٠٦م وفي الرابع من شهر محرم لعام ١٤٣٠ هجري توفي شقيقي هاني _يرحمه الله وقد كان يدير شؤون الأسرة وأوقافها فرأت أسرتي مني ومن خلال تخصصي الرجل الذي يمكنه استلام تلك الأمور فكان لي شرف التكليف إلا أنني لم أعد احتمل الازدواجية في المهام خاصة أن أسرتنا كبيرة _يحفظهم الله _ وبما أنني قد زوجت ابني الأكبر هاني وشقيقاته ولم يتبقى في عائلتي سوى الابن الأصغر إبراهيم رأيت في نفسي تخفيف الحمل عن كاهلي بإغلاق المكتب والتفرغ لوقف الأسرة وقضاء الوقت المتسع في السفر.
10- شهر رمضان وشهر الحج من المواسم الدينية والاجتماعية المميزة حدثنا عنها؟
رمضان وما أدراك ما رمضان كان لوالدي _ يرحمه الله _ سجادة في حصوة المطاف_ آنذاك_ وكانت بجوار سجادة اللواء مصطفى عرقسوس _ يرحمه الله_ حيث كانت أحواض الحصوات حول صحن الطواف يشغلها بعض الأعيان طيلة شهر رمضان ولم يكن الحرم بهذا الشكل الكثيف مثل ما هو حاصل الآن.
والمقصد فقد كنا ننزل بصحبته أنا وبعض أخواني من بعد صلاة العصر؛ لاستلام طاولات الكعك بالسمسم (الشريك) من مخبز (بدر) وننطلق كلنا لوجهة من البيوتات؛ لتوزيعها وبعضها يوزع عند الإفطار في الحرم المكي الشريف حيث نقطة تجمعنا بعد الانتهاء من مشاوير التوزيع. أما البيت فكان ولله الحمد والمنة يعج بالضيوف القادمين من خارج مكة من الأقارب وأصدقاء العائلة، ومن خارج المملكة من أصدقاء الوالد وأسرهم، فنقضي معهم أوقات نزولهم عندنا أجمل الأوقات حتى يقضوا نسكهم عائدين إلى ديارهم، أما ليل رمضان فأنا كنت حريصاً على متابعة برنامج رسم كركتيري كان يبث عبر القناة التلفزيونية السعودية، وبعدها أسرع مهرولاً للانضمام إلى شقيقي طلعت وأصدقائه الملتفين حول المذياع (الراديو)؛ لسماع حكايات (حجي بابا) والحكواتي الذي يروي قصص الزير سالم وأبو زيد الهلالي وغيرهم ممن استقينا منهم شيئ من الأدب العربي.
أما مطبخ المنزل فيبدأ من الساعة العاشرة صباحاً حيث الوالدة_ يرحمها الله_ تبدأ يومها المعتاد في إعداد أصناف ما يشتهيه كل فرد من أفراد الأسرة وتغرف المواعين التي يبدأ توزيعها على الجيران والأسر من أصدقاء الأسرة بواسطة سائق العائلة الذي يعاود استردادها منهم في اليوم التالي وهي مليئة أيضاً بما لذ وطاب وما أن تنتهي من صلاة العصر حتى تبدأ بفرد عجين السمبوسة التي يشغل فرشها كامل طول المجلس.
أما الحج فقصصه لا تنسى فقد كان الوالد_ يرحمه الله_ ينبه علينا بعد كل حجة أن الحجة القادمة لن تحجوا؛ لأن طلوعكم معي في الحج يتعبني إلى جانب القيام بأعمال الحج فتبدي له الوالدة موافقتها وما أن يدخل شهر الحج المبارك وتبدأ في عمل ( المعمول) وتبدأ إذاعة السعودية ببث أناشيد الحج لطلال مداح ( يا حادي قوم – أهلاً بكم أهلا حجاج بيت الله) إلا وتنهال دموع الوالدة وتختلط بعجين المعمول فما يكون من الوالد حين يرى تلك الدموع سوى الاتصال بالإدارة وتكليفهم بإقامة مخيم العائلة بمشعر عرفات وبيت منى التابع (لعين زبيدة). تلك كانت حكاياتنا في رمضان والحج.
11- تغيرت أدوار العمد في الوقت الحاضر وأصبحت محددة..كيف كان دور العمدة في الحارة؟
نعم، العمدة لم يكن مجرد موظف إحصائي لعدد سكان الحارة، أو مصدر لأوراق التعريف، ولا مجرد محضر للخصوم من سكان حارته. العمدة كان وجيهاً عند أهل الحارة أمام السلطات وكامل الجهات الحكومية؛ لتحقيق مطالب الحارة وسكانها من إيصال خدمات أساسية وتكميلية. العمدة كان يختار لمواصفات أهمها حسن الأخلاق، والذوق، والحصافة، ويمتلك الفراسة والمعرفة بالناس بكل طبقاتهم وثقافاتهم، ويجيد التعامل معهم وكاتم لأسرارهم حيث كان يدخل للبيوت يتعرف على أصحاب العوز؛ لمساعدتهم ويقيم مجالس الصلح للخصومة، ويصلح ذات البين في المشاكل الأسرية دون البوح بكل ذلك لذلك كان يجب أن يكون محل ثقة الجميع. هكذا كان العمدة وهكذا كانت مهامه.
وتقلصت تلك المهام بعد توفير الخدمات الإلكترونية التي أوصلت الخدمات الذاتية بين أصابع الجميع، كما أن فقدان الثقة وثقافة التشكيك أفقدته الدور الاجتماعي وجعلت المحاكم تعج بالمتخاصمين مع الأسف الشديد.
12- القامات الاجتماعية من تتذكرون منها والتي كان لها الحضور الملفت في الحارة؟
بلا شك.. هناك من القامات التي تبقى في الذاكرة خاصة تلك التي استمرت بالوقوف معنا ناصحين وموجهين لنا بعد وفاة الوالد على رأسهم الشيخ : محمد سعيد بن قابل، والشيخ: علي بن بنيه، والشيخ عبدالله الدهينة وغيرهم كثر.
13- هل تتذكرون موقفا شخصيا مؤثرا حصل لكم ولا تنسونه؟
بعد ظهر الثلاثاء ١٣ /٣ ١٣٩٥ هجري كنا نتهيأ أنا وشقيقي عمر؛ للانضمام إلى فريق مدرستنا مدرسة الملك فيصل النموذجية؛ للمشاركة في مسابقة أفضل عرض رياضي مدرسي لنهاية العام الدراسي والذي تقيمه إدارة تعليم مكة المكرمة في نهاية كل عام تحت رعاية صاحب السمو الملكي نائب أمير المنطقة الأمير أحمد بن عبدالعزيز _ حفظه الله_ وإذا بالراديو يقطع برامجه ويبث تلاوة للقرآن الكريم ثم نستمع إلى نحيب المذيع وهو يتلو بياناً من الديوان الملكي يعلن فيه نبأ استشهاد الملك فيصل بن عبدالعزيز _ يرحمه الله_ انقلب البيت إلى بكاء ونحيب وبين مصدق ومكذب إلى أن جمعت الوالدة _ يرحمها الله _شيئا من قواها فأخذت تجمعنا وتحرص علينا عدم إخبار الوالد الذي كان في مدينة جدة؛ لاجتماع عمل حتى تهيئ له ذلك مع أنها تشعر بعلمه بالخبر حيث كان دائماً ما يستمع إلى الراديو وهو في سيارته وما كان إلا قليل من الدقائق حتى وصل الوالد واصطففنا أمامه؛ لاستقباله كعادتنا إلا أنه في هذه المرة لم يستطع الوقوف وطلب من أخواني مساعدته على الوقوف فنظرنا جميعاً إلى وجه السائق الذي بدا لنا شاحباً فتأكدنا أنه علم بالخبر ساعد أخواني الوالد؛ للدخول إلى المنزل فطلب أن يضعوا له سريره في غرفة المختصر الخاص به في الطابق الأرضي؛ لانه لم يعد يقوى على رفع قدميه؛ لارتقاء الدرج ومن يومها لزم الفراش حتى علم الملك خالد _يرحمه الله _ بحالته فوجه بأمره بتخصيص رحلة استجمام على نفقته الخاصة وللدولة التي يرغب فيها فاختار القاهرة وسافر إليها في الخامس والعشرين من شهر شعبان عام ١٣٩٧ هجري وبقي فيها حتى الثالث من شهر رمضان حين شعر بشيء ما ينتظره فقرر العودة وما لبث إلا سويعات من وصوله إلى بيتنا في مكة المكرمة حتى فاضت روحه إلى بارئها في فجر الرابع من شهر رمضان لعام ١٣٩٧ هجري ذلك اليوم الوقت والحدث وتبعاته لن تنسى.
14-المدرسة، والمعلم، والطالب ثلاثي مرتبط بالعديد من المواقف المختلفة..هل تعرفونا علي بعض منها؟
إنجاز التعبير هو ليس بموقف بل نقطة تحول حدث لي وأنا بالصف الثاني المتوسط بمدرسة الملك فيصل النموذجية كما سبق الذكر،فقد كانت مادة الاجتماعيات التي تحتوي على مادتي التاريخ، والجغرافيا تشكل حملاً ثقيلاً علي وزناً وذهناً؛ لسماكة كتاب التاريخ ولزوم حفظه بدقة الحدث والتاريخ والشخصيات الواردة بها ، وكان معلم المادة هو الاستاذ عدنان منشي _ يرحمه الله _ كان أنيقا في ملبسه حريصاً على تناسق طقم ألوان أزارير الثوب والكبكات مع لون حذائه (جزمته) أكرمكم الله .. أنيقاً حتى حركات يده وجسمه أثناء الشرح ، وما إن انتهت حصته ذات يوم حتى خرج من الفصل وظننت أنه غادر إلى غرفة المعلمين فقمت بتقليد أسلوبه أمام الطلاب وإذا به يدخل إلى الفصل بعد أن كان خلف الباب وقد استمع لكل ما قمت به فتسمرت مكاني منتظراً ( مخمساً) أرى به نجوم الليل في وضح النهار، أو أخذي إلى مدير المدرسة الأستاذ زاهدقدسي يرحمه الله ، وكان أحلى الأمرين مراً، وإذا به يأخذ بيدي ليرفعها أمام الطلاب؛ ليعلن لهم تكليفي بقيادة جمعية الاجتماعيات لإعداد المعرض السنوي التنافسي بين مدارس مكة المكرمة والذي تنظمه إدارة التعليم، فماكان مني إلا أن أقدم له اعتذارات تفوق ذنبي.. وذلك بالأعمال المجسمة الحركية التي تشاهد لأول مرة في مدارس مكة المكرمة على مستوى المرحلة المتوسطة. وبالفعل فازت مدرستنا بالمركز الأول وتم إعلان تكريمي في طابور الصباح للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة وبحضور مدير عام المدارس الأستاذ زاهد_ يرحمه الله ، من يومها أحببت المادة ومن ثم القراءة وإن طالت.
هكذا كانت التربية مقدمة على التعليم.
15-كثرت وسائل الإعلام في الوقت الحاضر وأصبحت مرافقة مع الناس في كل مكان.. ماهي الوسائل المتوفرة لديكم في السابق؟ وما أثرها على أفراد المجتمع آنذاك؟
الحمدلله ..لم يكن سوى الراديو والتلفزيون الرسمي والذي لا يذيع ولا يبث إلا ما هو صحيح وواقع. لذا لم يكن هناك شيء يشوش على الناس من شائعات وأكاذيب تروج مثل الآن في هذه الأجهزة العصرية. والذي أصبحت فيه القنوات الإعلامية بعدد سكان العالم الحاملين بين أصابعهم هذه التقنية منهم من يبث ثقافته، ومنهم من ينفث سمومه وحقده على المجتمعات، ومنهم من يروج لبضاعة ضارة. ولك القياس على ذلك الصالح منهم والطالح وبلا شك أن للصالح منهم نصيب فهناك المعلومة المفيدة التي كانت تستغرق الوقت الطويل؛ للوصول إليها أصبحت تصلك في جزء من الثانية وكما قال الشاعر دائم السيف: ( ولكل شرايً بضاعة وسوقي).
16- تظل للأفراح وقفات جميلة لا تنسى في الحارة.. ماذا تتذكرون من تلك اللحظات السعيدة؟ وكيف كانت؟
كانت الأفراح لها مذاق مختلف فالكل ينتظر ذلك اليوم؛ ليهبوا إلى بيت العريس قبل تلك المناسبة بثلاثة أيام على أقل تقدير؛ ليقوموا بنصب الصيوان وعمل البرزة (الكوشة) والأهم في ذلك هو التجمع مع كامل أبناء الحارة دون أن يتخلف منهم أحد؛ ليظهر كل منهم مواهبه الخفية ليجرب مرة وأخرى، ثم يفشل في عمل النجارة أو شد الأروقة ( التيازير ) ليلقى التأنيب والضحك والمزاح حتى يفشل وينال ما ناله سابقه حتى تظهر النتيجة الأخيرة التي تكون مقبولة نوعاً ما. كذلك هناك من يستلم دفتر الرفود ( القود )؛ ليسجل الأسماء والرفود كل قدر استطاعته ويكون ذلك من نوعيات المواد الغذائية الشائعة ابتداءً من صندوق الشاهي، ومروراً بتنكة السمن وأكياس السكر والرز إلى الغنم ومنهم من يقدم مالاً يستعين به العريس على التكاليف.
ولا زلت أحتفظ بدفتر ( أبو عشرين) لزواج شقيقي هاني يرحمه الله والذي كان بمدينة الطائف مما جعل الأهل والأصدقاء يتوافدون إلينا قبل ليلة الزواج بأسبوعين وكانت بمثابة فرصة؛ للاصطياف والمشاركة وكانت تلك الرفود التي أتوا بها هي من ضمن معيشتهم التي كانوا يتفننون بطبخها.
17 – الأحزان في الحياة سنة ماضية.. كيف كان لأهل الحارة التخفيف من وقعها؟
واقعة وفاة الوالد _يرحمه الله _بلا شك لم تكن علينا فقط بل كانت على كل أولئك الناس ممن حولنا مما جعلنا جميعاً مصابين ومعزيين في نفس الوقت. وكان ذلك الحدث في شهر رمضان إلا أنهم لم يبرحوا عن ذلك البيت إلا بعد انقضاء اليوم الثالث قائمين على مائدتي الإفطار والسحور لذلك البيت المكتظ بالناس.
18-الأحداث التاريخية الشهيرة في حياتكم والتي عايشتموها هل تتذكرونها؟ وما الأبرز من تفاصيلها؟
أذكر منها سيل ( الربوع الأخير) حيث كنت في روضة الأطفال أنا وشقيقتي وداهمت السيول مكة المكرمة من كل أوديتها وبالكاد أوصلتنا (الأنيسة فلوكس واجن) التابعة للمدرسة إلى ميدان النافورة بالششة والذي يبعد عن بيتنا بمائة متر تقريباً وهب إلينا إخوتنا الكبار؛ لحملنا على أكتافهم للمنزل بعد أن ذهب إليهم السائق وأوصلهم إلى مكان (الأنيسة)، كذلك حادثة استشهاد الملك فيصل _ يرحمه الله_ ، وأحداث السطو على الحرم المكي الشريف من قبل جهيمان وشرذمته، ثم احتلال الكويت وما تبعها من حرب التحرير، وصولاً إلى حرب الخليج الأخيرة. وها أنا ذا أعيش هذا الحدث العالمي الكبير الذي اجتاح العالم بالفيروس القاتل (كورونا كوفيد 19) والذي نسأل الله سبحانه أن يكشفه عن سائر الأرض عامة وعن بلدنا والمسلمين خاصة.
19- ما هي الألعاب الشعبية التي اشتهرت بها حارة شعبة المغاربة؟
إن كنت تقصد ألعاب الأطفال فهي كانت ألعاب مبتكرة بصناعة ذاتية أما من الكفرات التالفة للسيارات، أو جنط سيكل ندفعه بسيخ منحني يلتف على الجنط؛ لنجري به في الحارة، أو نجمع أغطية (الميرندا والكعكي كولا) وثقبها بمسمار من وسطها؛ ليتخللها مطاط ثم تربط ببعضها لتكون على شكل كفر ثم تثبت على قاعدة صندوق شاهي من الأربع الأركان ويثبت في مقدمتها حبل يجلس واحد منا على تلك القاعدة وآخر يسحبه ويكون ذلك بالتوالي للساحب والمسحوب، أما ألعاب العيد فتنصب في ساحة الحارة ما نسميه “بالمداريه” وهي صناديق من الخشب تربط وتعلق على عمدان خشبية في الأرض ثابتة في الأرض وتلتقي أطرافها عند زاوية حادة في رأسها ثم تربط جيداً بالحبال. تلك كانت قمة الترفيه لدينا !.
أما الألعاب للأكبر سناً فكانت أم سبعة حجار والتي كنا نصطف؛ لمحاولة الإطاحة بالحجار المتراصة فوق بعضها بكرة من الجلد ومن مسافة بعيدة عن تلك الحجارة وعلى من يتمكن من ذلك سرعة الانطلاق بعيدا وآخر من فريق الخصم يحاول أن يضربه بالكرة قبل يصل أعضاء فريقه بإعادة رص تلك الحجارة، كذلك كانت لعبة اللاري وهي شبيه بلعبة الكريكيت الهندي.
أما لكبار الحارة الذين كانت تجمعهم الجلسات “الدكات” أمام المنازل للاستماع للمحاورات الشعرية، والتغني في ليال السمر فكانت تثري ثقافات الأجيال من بعدهم.
20- لو كان الفقر رجلا لقتلته مقولة عظيمة لسيدنا علي رضي الله عنه..هل تروون بعضا من قصص الفقر المؤلمة؟
رضي عنه وأرضاه – الفقر سنة من سنن الله في الأرض وإلا لما شرعت الزكاة والصدقات وما كان سخر الناس للناس، ولكن المؤلم هو ازدراء الفقر والفقراء وتراخينا حقيقة عن الاجتهاد في البحث عن أصحاب العوز المتعففين ونستسهل في إعطاء المتسولين المحتالين.
أما عن قصة فقر مؤلمة فلن يكون هناك أبلغ إيلاماً من أن ترى دمعة ترهق عين والدك رغم تحامله على نفسه ومحاولته إخفائها عنك وهو يروي لك قصته مع الفقر. ففي يوم عيد من أعياد الفطر المبارك وكعادتنا يكون الإفطار في اليوم الأول في بيت الوالد يجتمع عليه كل الأهل والأصدقاء، وكنت دائماً ما أرقب كل حركات أبي وسكناته كأي ابن تشده قامة أبيه؛ ليتعلم منها ويتربى عليها. فجأة ولأول مرة في حياتي أرى دمعة حبيسة في عين والدي الذي سرعان ما فز؛ ليتوارى عن الناس ويخفيها ثم عاد مسرعاً ولكنه لاحظني أني شعرت به، وأصبحت قلقاً منتظراً خلوي بأبي،؛ لأعرف ما به وما إن انفض الناس دعاني هو بنفسه وقال لي : ( هل تود معرفة ما أبكاني؟) فقلت له: نعم فقال: ما أبكاني نعمة الله هذه التي أكرمنا بها وكنا عليها منذ قليل بعد صبر على ابتلاء عوضني الله تعالى فله الحمد والثناء ثم روى لي أبي يرحمه الله قصة تهجيره ! وهو في سن الثاني عشر من عمره وأخواته البنات اللاتي يصغرنه في السن مع أبيه عمر الذي كان من كبار تجار المدينة المنورة _آنذاك _ بعد أن جردوا من كل أموالهم وأملاكهم من قبل الدولة العثمانية التي أرسلت إلى المدينة جيشاً بقيادة فخري باشا؛ لإخماد ثورة الشريف حسين.. على الدولة العثمانية فقام فخري بتهجير الأسر وتشتيتها حتى للأسرة الواحدة إلى دول متفرقة منها الشام وآسيا وأوروبا كما قام بتهجير أبناء القبائل إلى القرى وتمكن جدي من الوصول بأطفاله إلى جدة عام 1332للهجرة وتوفي من العام نفسه ودفن في مقابر أمنا حواء وبقي والدي ابن الثانية عشر وأخواته الثلاث تحت عينه عمل وهو طفلاً؛ لإيوائهن وإعاشتهن. وروى لي أنه كان يجمع بعض قطع الخبز المجفف الذي يفيض ويترك عند أبواب البيوت ثم يحك ما تفطر منه ويبلله بالماء؛ ليأكل ما يقوم به صلبه.
21 – ماذا تودون قوله لسكان الحارة القديمة؟
بكم وبمعدنكم النفيس صاغ لنا زماننا أجمل أيام العمر ولن ننساكم ما حيينا.
22- رسالة لأهالي الأحياء الجديدة.. وماذا يعجبكم فيهم؟
نحمد الله ونشكره أن من علينا من حال لأحسن حال، وها نحن في فسحة الشوارع، وتعدد تصاميم البيوت وأشكالها،وتوفر الخدمات بأنواعها، ووسائل الترفيه واختلافها فالحمدلله من قبل ومن بعد.
ورسالتي لهم فقط لا تجعلوا من تباعد الطوب ما يبعد القلوب. قد يتغير فرش البيت من وقت لآخر قبل أن يجلس عليه ضيف، فافتحوا بيوتكم للضيوف فكما أن عمار المساجد المصلين، كذلك عمار البيوت ضيوفها.
23- كيف تقضون أوقات فراغكم في الوقت الحالي؟
ما عهدته عن أبي وأخي_ يرحمهما الله تعالى _ فقد أتيت بأخواتي كلهن من مكة والطائف إلى جواري بجدة؛ كي أكون طوافاً عليهن أو استضافتهن في بيتي فهن ونس وقتي الحاضر مع أبنائي وبناتي.
24- لو عادت بكم الأيام د. عدنان ماذا تتمنون؟
أجثو لتقبيل قدمي أمي ولا أبارحها.
25- بصراحة.. ما الذي يبكيكم في الوقت الحاضر؟
ليس للحياة طعم ولا معنى إن لم يكن فيها من يخاف عليك، وأنا كانت لي أم تسكب الدمع على همي مهما حاولت أن أزيف سعادتي أو رسم ابتسامتي ، أجدها تسكب دمعها وعندما أسألها ( مم تبكين؟ ) تقول لي ( بل أنت مابك ؟) والآن وبعد رحيلها حين أتألم يزيد ألمي إذا تلفت ولم أجد أمي) والحمد لله.
26- ماذا تحملون من طرف جميلة في دواخلكم ؟
كان يحضر لبيتنا في أوائل كل شهر من رمضان المبارك خياط مقيم من الجنسية الإندونيسية؛ لأخذ مقاساتنا أنا وأخواني؛ لحياكة ثوب العيد وكان ظهر في ذلك الوقت على التلفاز فنان معروف يغني أغنية مشهورة ظهر بثوب بياقة طويلة من أربع أزارير مثبتة على الثوب ومكسوة بنفس قماش الثوب، فانتظرت حتى خرج الجميع وباعتباري الأصغر فكان دوري الأخير فكانت فرصة لأخلو بالخياط وأطلب منه خياطة نفس ياقة ثوب ذلك الفنان بعد سؤاله إن كان يعرفها تماما.. ( بزعمي أنني سافأجئ الجميع من أخواني بذوقي الرفيع والمتطور) فقال لي: نعم شاهدتها وبإمكاني عملها ولكن علي إخبار الشيخ ماجد أولاً ( يعني أخذ موافقة أبي أولاً فسألته متعجباً لماذا !؟ أجابني بلهجته الركيكة ( عشان هذا مافي حق رجال كويس..! ) فما كان لي إلا أن أتوسل إليه بنسيان طلبي. ومن ذلك اليوم إلى يومنا هذا لم أغير في شكل ثوبي.
27- د. عدنان لمن تقولون لن ننساكم؟
كل أولئك الناس الذين فارقوا حياتي بعد ما تركوا لهم ذكرى جميلة في نفسي. رحم الله من مات فيهم وجمعني بالأحياء منهم في خير وصحة وسعادة.
28- ولمن تقولون ماكان العشم منكم؟
إذا كانت ما كان العشم بشكل شخصي، فليس لدي من أقول له هذه الكلمة؛ لأن في الأصل أنا لم أقدم شيئا لأحد تعشمت منه الرد أو الوفاء وما أنتظره من رد والوفاء قادم لا محالة من الله رب العالمين.
أما ما كان العشم بشكل عام فأقولها لكل من ينتمي لهذا البلد المبارك ثم باعه بحفنة دولارات.
ما كان العشم لكل من لبس ثوب وشكل المتدين مستغلاً شغف أهل هذه البلاد بمرضاة الله فيسلب أموالهم؛ ليشيد بها قصوره.
ما كان العشم لكل من اعتبرناه شيخا فتاجر بدماء أبناء الأمهات الثكالى باسم الجهاد في الإسلام، ومن نجى منهم من الموت عاد ليكفر والديه، والدولة، وكل من لم يذهب على مذهبه بينما ينعم ذلك الشيخ في قصوره ومن حوله لفيف أبنائه، ثم يظهر مؤخراً؛ ليعتذر عن فتاويه السابقة مبرراً أنها كانت وقت الشباب والحماسة. ويعلم الله ما في قلبه وهو ألد الخصام.
29- د. عدنان لكم تجربة في مجال المحاماة كيف تصفونها؟
المحاماة هي مهنة تجلب السعادة للنفس لمن يقدم فيها إظهار الحق على جلب المنفعة. ومن أساسيات إظهار الحق هو تقصي أصل الحقيقة دون الركون فقط إلى الورق الذي قد يكون فيها ما يثبت ظلم وليس بإثبات حق. وذلك ما كان يؤرقني في هذه المهنة فقد كنت أتحرى الحقيقة من خلف العميل حتى لا أوقع ظلماً على خصمه بجهل مني وذلك جزء من سلوكي الذي أكسبني ثقة كثير من قضاة المحاكم ولله الحمد والمنة.
وفي المقابل كان يصدمني عندما تأتيني قضايا لأسماء يؤخذ بيدها لصدور المجالس وإذا بداخلهم وحوش يأكلون أموال اليتامى وظالمين لأهلهم مما جعلني أنظر للدنيا في بعض الأحيان بنظرة سوداوية معتمة.
بالتأكيد كان علي أن أعزل عملي عن مشاعري ولكن هذا ما فطرني الله عليه هو تفاعل مشاعري مع قضاياي، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعتني للتنحي عن مزاولة مهنتي.
30- التسامح والعفو من الصفات الإنسانية الراقية.. تقولون لمن سامحونا؟ وتقولون لمن سامحناكم؟
سامحوني لكل من قصرت أو اخطأت في حقه بقصد أو بغير قصد وبعلم أو دن علم وبدون استثناء…سامحوني.
وما أطلبه لنفسي لن أنقص حق الغير منه، لذلك أقول لكل من أخطأ أوقصر في حقي بعلم وبدون علم وبقصد أو بغير قصد وبدون استثناء…سامحتكم.
ولكن … هناك شخص واحد استثنيه ليس بطلبي منه السماح بل بتوسلي إليه أن يسامحني.. شخص واحد حرمته أن يعيش طفولته كباقي الأطفال ودفعته ليحمل مالا تحمله متون شداد الرجال، حرمته أن يعيش سنوات مراهقة الشباب، حملت عليه كثيراً من أجل إرضاء الآخرين، حتى مشاكل أعمالي وهمومها كنت أرمي بها عليه فلم أدع له وقتاً يخلو فيه بأبنائه وأهل بيته، شخص واحد يضحك معي إذا ضحكت دون زيف أو مجاملة، ويبكي معي دون تمثيل أو لمجرد المشاركة، شخص واحد لا أراه إلا حين أنظر في المرآة..!
31- كلمة أخيرة في ختام لقاء ابن مكة د. عدنان فيروزي؟
أسأل الله العلي القدير أن يحفظ هذا الوطن والمخلصين من أهله ويهدي ضآلهم، وأن يزيد هذا البلد رفعة وعزة ورخاءً ومنعة. وأن يكفيه وأهله شر الأعداء والحاقدين والأشرار، وأن يرفع عن هذا البلد وأهله هذا الوباء خاصةً وعن سائر الأرض عامةً ، وأقدم شكري لهذه الصحيفة الغراء والعاملين عليها وعلى رأسهم رئيس التحرير الطموح، والشكر موصول لشخصكم الكريم الأستاذ عبدالرحمن بن عبدالقادر الأحمدي.
شكراً اخي عبد الرحمن على هذا الحوار القيم
وشكراً للدكتور عدنان على الشفافيه والصدق في الحوار
شكرا من القلب للصحفي المتميز الاستاذ عبدالرحمن الاحمدي
والشكر الجزيل للدكتور والصديق والزميل العزيز ابو هاني عدنان فيروزي
مقابله شيقه ورائعه في سرد الاحداث والذكريات وراقيه في الاسلوب وانتقاء المفردات
لكم مني كل الاحترام والتقدير