تتردّد هذه العبارة على لسان البعض من العائدين من الابتعاث من الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الغالب، فإنّ الأصدقاء والأقارب على أرض الوطن يشعرون بأنّ هذه العبارة “ثقيلة دم!”. الفكرة التي قد تدور بأذهانهم عند سماع “أنا لما كنت في أمريكا” هو، “ارحم والديك لا تصدّع رؤوسنا بأمريكتك، خلاص عرفنا إنك كنت بأمريكا!”. قد يصدعون بها جهرًا أو تراودهم سرًّا؛ فهم يكونون حينها تحت وطأةِ الإحساس بأنّ هذا المبتعث أو تلك المبتعثة قاعدة تحاول تشوف نفسها علينا بأمريكا!.
بل حتى في المسلسلات المحلية والدراما الرمضانية وغيرها من الأعمال المصورة، يتم استخدام هذه العبارة على لسان أفراد يلعبون أدوار شخصيات للعائدين من الخارج؛ في إشارة غير مباشرة إلى شخصية “غثيثة” وما عندها سالفة! هنالك حلقة بعنوان “أنا يوم كنت بأمريكا!” للعمل الكرتوني “مسامير” تُظهِر العائدين من الابتعاث يتسببون في نفور من حولهم! في مسلسل سلفي 2 يظهر حبيب الحبيب في لباس غير معتاد وتسريحة غريبة وهو يتحدث “عربي مكسّر” محاولًا أن يظهر تأثره بالفترة التي قضاها بأمريكا رغم أنها لم تتجاوز السنتين؛ مما يضطر ناصر القصبي إلى أن يقول له، “اِنضِبِطْ!”، وفعلًا اِنضَبَطَ الحبيب وعادت لهجته السعودية فورًا.
أيضًا في المسلسل الرمضاني مخرج 7 الذي يعرض حاليًّا في شهر رمضان، يظهر جبر بشخصية غير مسؤولة وليست محل ثقة وهو يتحدث باستمرار عن تأثره بأيام كان بأمريكا.
في حين أنّ هنالك بلا شك تصرفات سلبية و”غثيثة” تصدر من بعض العائدين، إلا أنّ ذلك يجب ألا يتسبب في جعلنا كمبتعثين نتراجع ونفقد الثقة في النفس، بل من الضروري أن نبحث عن الطريقة الأفضل لمشاركة الدروس والتجارب القيّمة التي اكتسبناها في بلد الابتعاث.
ولكن القضية أكبر من مجرّد عبارة “ثقيلة دم”، فهذا النفور من حديث المبتعثين عن تجاربهم هو بمثابة رأس القمة الثلجية الصغيرة التي تظهر على سطح المياه، بينما يختبئ جبل من الجليد تحت مياه البحر. جبل الجليد في هذه الحالة هو عبارة عن أنماط اجتماعية وثقافة عمل أمريكية اكتسبناها خلال سنوات الدراسة وأسلوب حياة اضطررنا للتعوّد عليه بعد أن نجحنا (بصعوبة) في مزج ثقافتنا السعودية مع ظروف الواقع في بلد الابتعاث؛ لنتمكن من الاستمرار لنعود لوطننا بالشهادات والخبرات التي ستكون سببًا في رفعته بإذن الله.
الذين يعودون لأوطانهم بعد سنوات من الغربة يمرون بما يسميه المختصون بـ“الصدمة الثقافية العكسية”. تعرّف هذه الظاهرة بأنّها ضائقة نفسية يعاني منها الشخص حين عودته إلى موطنه بعد سنواتٍ من الاغتراب. أذكر أنني قابلت أصدقائي في السعودية بعد سبع سنوات من الابتعاث بين كندا وأمريكا. هؤلاء الأصدقاء كنت ألعب معهم البلوت، وكنّا نسهر الليالي سويًّا بلا كللٍ ولا ملل. عندما قابلتهم بعد العودة من الابتعاث وجدت أنني لم أعُد أشعر بنفس الدرجة من الانسجام معهم كما في السابق. أصبحت اهتماماتي مختلفة، وشعرت كأنما هنالك فراغ كبير تركته سنوات الغربة بيني وبينهم! يقول أسامة، أحد زملائي في الابتعاث الذي عاد مؤخرًا، “سعادتي بالعودة لأهلي لا توصف وسعادتهم هم كذلك كبيرة بعودتي، ولكنني كنت أتوقع أنني سأعود لنفس الحياة التي تركتها عندما غادرت للبعثة، ولكن عدت لشيء مختلف عمّا أذكره.
فهذا تخرج، وهذه تزوجت، وذلك “البزر” أصبح رجلاً أطول مني، وتلك أصبحت أم لطفلين. رغم أنني باركت له على تخرجه، وحضرت زفافها، وانتظرت خارج غرفة ولادة الأخرى؛ إلاّ أنني لم أعش معهم تلك التفاصيل الدقيقة في حياتهم!”
وجدت أنني عندما أحكي لصديقي أسامة تجارب ومواقف حصلت في بلد الابتعاث، فهو يشعر بأنها مألوفة ويبدأ يتخيّل نفسه في نفس موقفي. الدور الذي يقوم به دماغ أسامة ليُمَكّنه من القيام بذلك، هو القيام بعمل استعاراتٍ ذهنية لمواقف مشابهة من الذاكرة، ويُلصِقها بالأوصاف التي أحكيها؛ فترتسم صورة مألوفة في ذهن أسامة تمكنّهُ من التفاعل مع قصّتي. بينما أصدقاء البلوت القدامى من غير المبتعثين يفتقدون تلك الاستعارات الذهنية التي يمكن استحضارها لتمكّنهم من الشعور بالانسجام مع قصتي.
ليسوا هم فقط من تغيّر، بل نحن أيضًا تغيّرنا خلال فترة الابتعاث دون أن نشعر. بل إنني مررت بتجربة في بلد الابتعاث نفسه قبل العودة للوطن أثبتت لي أنني تغيّرت. بحلول المنتصف من شهر جولاي عام 2018 ميلادي، كان قد انقضى 11 شهرًا منذ وصولي إلى ولاية كاليفورنيا الأمريكية. تلقيت دعوة من العم أبو رائد لحضور مأدبة عشاء بمناسبة نجاح ابنه في الحصول على قبول جامعي بعد صراع سنتين مع اللغة الإنجليزية. كانت هذه المناسبة السعودية الأولى لي منذ ما يقارب السنة. عند دخولي إلى غرفة الضيوف، نظرت في عيني أول شخص قابلته في صالة المناسبة، ابتسمت، سرت بخطوات متتالية نحوه وعيناي لم تفقدا تواصلهما مباشرةً مع عينيه بكل أريحية، مددت يدي مصافحًا وقلت: “معاك شادي حولدار، إيش أخبارك؟ لمحت على وجهه نظرة استغراب ممتزجة بابتسامة مريحة وكأنه يقول، تعرفني؟!
استأذنت مبكرًا لارتباطي المسبق بموعدٍ ضروري تلك الليلة. رافقني في المصعد أحد الذين تعرفت عليهم في المناسبة وعرض أن يقوم بإيصالي للمنزل بسيارته. ولكن شكرته، وأخبرته بأنني لست ذاهبًا للمنزل وسألتقي بأحدهم بالقرب من المبنى؛ أصرّ الأخ الكريم على إيصالي وحلف يمينًا أنه لن يتركني وشأني! بدأت أشعر ببعض الاستياء من إصراره وفقدت سيطرتي قائلاً: “يا عزيزي قلت لك لا، شكرًا على كرمك!”
كانت طريقة سلامي على الشخص الأول أشعرته؛ وكأنني أعرفه وبيننا صداقة، وهو الأسلوب الطبيعي لدى الأمريكيين، بينما غير معتاد في ثقافتنا العربية؛ حيث يدخل في باب اللطافة لديهم وفي باب الميانة لدينا. في الموقف الثاني، كان الشخص كريمًا وأراد إظهار تقديره ومحبته بإصراره، وهذا الطبيعي في أسلوب الكرم العربي، بينما هو تجاوز للحدود الشخصية في العرف الأمريكي!
هذا بعض مما حصل لما كنت في أمريكا!