مُقَدِّمة كِتابٍ سيصدر قريبًا
بعنوان “فِتْنَة القَوْل بالبنيويَّة”.
ليس هذا كِتابًا في البنيويَّة يَزِيدُ في العَدَدِ ما صُنِّفَ عنها في النَّظَرِيَّة النَّقْدِيَّة، وليس للقارئ العربيّ مِنْ حاجَةٍ إلى هذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف؛ فَدُونَهُ الكُتُب الَّتي قَصَرَها أصحابُها على التَّعريفَ بها وبِسِوَاها مِنْ نَظَرِيَّات النَّقْد الأدبيّ ومَناهجه. وكُنْتُ قَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي، مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، على أنْ لا أقرأ لِغَيْرِ أَهْل الصَّنْعة والاختصاص، متى ما أَرَدْتُ معرفةَ هذا الفَنِّ أوْ ذاك مِنْ فُنُون الفِكْر والفلسفة والنَّقْد، وأدركْتُ، بَعْدَ أنْ نُقِلَتْ إلى العربيَّة جمهرةٌ مِنْ تلك الكُتُب الأُصُول، أنَّ تَكَلُّفَ باحِثٍ عربيٍّ تلخيصَ هذه النَّظريَّات والمناهج، في زَمَن التَّرجمة، تَضييعٌ للوقت، وأنَّ قراءة هذا اللَّوْن مِنَ التَّآليف يَحْرِم القارئَ الظُّهُورَ على مَضَايِقِهِ ولَطَائِفِه.
عَرَّفَتْنِي الكُتُبُ الأُصُولُ ذلك البَوْنَ الواسِعَ، ما بَيْنَ كِتاب نَظَرِيَّة الأدب لرينيه ويليك وأوستن وارين، وكُتُبٍ أُخْرَى في اللُّغَة العربيَّة تَحْمِل العُنوانَ نَفْسَهُ، لكنَّها تَقْصُر دُوْنَهُ قُصُورًا بَيِّنًا في العُمْق والإحسان والتَّجويد، وقِسْ على ذلك كِتاب نَظَرِيَّة الشَّكلانيِّين الرُّوس، ذلك الَّذي تَرْجَمَهُ إبراهيم الخطيب، وموسوعة كيمبردج في النَّقْد الأدبيّ، وكُتُبٍ أُخْرَى وَضَعَها جان كابانس، ورامان سلدنْ، وتيري إيغلتون، وقابِلْها بِكُتُبٍ لَخَّصَ فيها باحثون عربٌ هذه النَّظَرِيَّة أوْ تلك، بلْ إنَّ مِنْ أولئك المُلَخِّصِين مَنْ لا يَتَهَيَّب التَّأليف في النَّظَرِيَّة النَّقْدِيَّة الغربيَّة، وعُدَّتُهُ مُلَخَّصَاتٌ عربيَّة قليلة النَّفْع.
إذنْ، ليس هذا كِتابًا في البنيويَّة، إذا كان المقصودُ التَّعْرِيفَ بِأَصْلها وفَصْلها، والنَّظَرَ في مؤلَّفات أعلامها، لكنَّه كِتابٌ عنْ أَثَر البنيويَّة، عنْ كَلَف نُقَّاد الأدب والمُثَقَّفين بها. ورُبَّما صَحَّ أنْ نَعْتَدَّ هذا الضَّرْبَ مِنَ التَّأليف أدنَى إلى المعنى الاجتماعيّ لنظريَّات العُلُوم، ويَدْخُل في عِدَادِها الفلسفةُ والنَّقْدُ الأدبيُّ وما شِئْنا مِنْ صُنُوف الثَّقافة والمعرفة، في تُرَاثِنا وفي تُرَاث غَيْرِنا؛ فَرِحْلَةُ المُوَطَّأ للإمام مالك بن أَنَس، مِنَ المدينة النَّبَوِيَّة المُنَوَّرة إلى غير ناحيةٍ مِنَ العالَم الإسلاميّ، ومِنْ بينها المغرب والأندلس = ليسَتْ هي الكِتاب، بما اشتملَ عليه مِنْ أحاديثَ نَبَوِيَّةٍ شريفة، لكنَّها تاريخٌ له، ولِأَثَرِهِ في هذه النَّاحِيَة أوْ تلك، وشَغَفُ القَوْم بـ الكِتاب لإمام النُّحَاة سيبويه، وما اتَّصَلَ به مِنْ قصصٍ وأخبارٍ، وتسميته بالكِتاب، وعَدُّه “قرآن النَّحْو”، وتَكَلُّف جَمَاعةٍ مِنَ العُلَماء وطَلَبة العِلْم حِفْظَهُ واستظهارَهُ = ليس بابًا مِنْ أبوابه، إنَّما هو جُزْءٌ مِنْ صُوَر تَلَقِّيه في الثَّقافة العربيَّة والإسلاميَّة، وكذلك الجامِعُ الصَّحِيحُ للإمام البُخَارِيّ؛ نَسْخُهُ، ورِحْلَتُهُ مِنْ بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، والعِنايةُ به، والاحتفالُ بقراءَته وخَتْمه، واتِّخاذُهُ وسيلةً، وَقْتَ الشَّدائد والمِحَنْ الَّتي تَنْزِلُ بالمسلمين = ليس هو أبواب الكِتاب وفُصُوله، وإنَّما هو أَدْخَلُ في تاريخه، ومعناه الاجتماعيّ والثَّقافيّ. واحْمِلْ على ذلك مِئَات الكُتُب في تُرَاث العرب والمسلمين، نَعْرِف بها طَرَفًا مِنْ أحوال الكِتاب، أو المذهب، أو النِّحْلة، كانتشار فِقْه الإمام أبي حنيفة في “بغداد، ومصر، وبلاد فارس، والرُّوم، وبَلْخ، وبُخَارَى، وفَرْغَانَة، وأكثر بلاد الهند والسِّنْد، وبعض بلاد اليمن”، وفِقْه الإمام مالِك في المغرب والأندلس، وفِقْه الشَّافعيّ في مِصْر والحجاز واليَمَن وحضرموت، وفِقْه الإمام أحمد في نَوَاحٍ مِنَ العراق والشَّام ونَجْد. وتستطيع أنْ تَذهب، في ذلك، مَذَاهِبَ في التَّفسير والتَّعليل، وسَتُعِينُكَ كلمة الإمام ابن حَزْمٍ الأندلسيّ – رحمه الله – في تفسير ذلك وتعليله:
“مَذْهَبان انتشرَا في بَدْءِ أَمْرهما بالرِّياسة والسُّلْطان: مذهب أبي حَنيفة، فإنَّه لَمَّا وَلِيَ قَضَاءَ القُضَاة أبو يوسف كانَتِ القُضَاةُ مِنْ قِبَلِهِ، فكان لا يُوَلِّي قَضَاءَ البلاد مِنْ أقصَى المَشْرِق إلى أقصَى أعمال إفريقيَّة إلَّا أصحابَهُ والمُنْتَمِين إلى مذهبه = ومذهبُ مالك بن أنس عندنا؛ فإنَّ يحيى بن يحيى كان مَكِينًا عند السُّلطان، مقبولَ القَوْلِ في القُضُاة، فكان لا يَلِي قاضٍ في أقطارنا إلَّا بِمَشُورته واختياره، ولا يُشِير إلَّا بأصحابه ومَنْ كان على مذهبه، والنَّاسُ سِرَاعٌ إلى الدُّنيا والرِّياسة، فأَقْبَلُوا على ما يَرْجُون بُلُوغَ أغراضهم به. على أنَّ يحيى بن يحيى لَمْ يَلِ قَضَاءً قَطُّ ولا أجابَ إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهمْ، وداعيًا إلى قَبُولِ رأيه لديهم، وكذلك جَرَى الأَمْر في أفريقيَّة لَمَّا وَلِيَ القَضَاءَ بها سَحْنُون بن سعيد، ثُمَّ نَشَأَ النَّاسُ على ما أَنْشَرَ”
وأنا يَسْتَهْوِيني، كثيرًا، هذا اللَّوْن مِنَ التَّأريخ، أقرأه في كُتُب التَّراجم، وألقاه في كُتُب الفهارس والبرامج والشُّيُوخ، وأَقَعُ على فرائدَ مِنْه في كُتُب الرِّحلات. ونحن نقرأ كِتابًا في النَّحْوِ ثُمَّ لا نَجِدُ فَرْقًا مَّا بينه وبين كُتُبٍ سَبَقَتْه وأُخْرَى لَحِقَتْه، فَكُلُّها في المُعْرَب والمَبْنِيّ، والمبتدأ والخَبَر، والجُمْلَة الاسْمِيَّة والجُمْلَة الفِعْلِيَّة… وهكذا، لكنَّ كُتُب تراجم النُّحاة تقول شيئًا آخَرَ. تقول: إنَّ كِتاب الجُمَل في النَّحْو، لأبي القاسم الزَّجَّاجِيّ المتوفَّى سنة 340هـ، كان “كِتاب المصريِّين وأَهْل المغرب وأَهْل الحِجَاز واليَمَن والشَّام”، اعتنَى به الأندلسيُّون، وَوَضَعَ المغاربة عليه مِئَةً وعِشْرِين شَرْحًا، حتَّى إذا صَنَّفَ ابْنُ جِنِّي اللُّمَعَ، وأبو عَلِيٍّ الفارسيُّ الإيضاحَ، اشتغلَ النَّاسُ بهما، وانصرفوا عَنْه، وإذا ظَهَرْنا على كُتُب السَّلَف رَأَيْنا كِتابًا وَلُودًا، وثانِيًا عَقِيمًا، وآخَرَ مُنْجِبًا، له أبناءٌ وحَفَدَةٌ وذَرَارِيّ، وأنَّ لِكِتابٍ مُخْتَصَرًا، ولآخَرَ تَتِمَّةً، أوْ صِلَةً، أوْ تَكْمِلَةً، أوْ ذَيْلًا، وأنَّ للكُتُب أنسابًا، كما للنَّاس أنساب، وأنَّ هذا اللَّوْنَ مِنَ التَّأليف والتَّلَقِّي، هو جُزْءٌ مِنْ تاريخ العِلْم، وما يُحِيط به.
وفي البنيويَّة وأخواتها، مِنَ النَّظريَّات النَّقْدِيَّة الحداثيَّة وما بَعْدَ الحداثيَّة، ما في سِوَاها مِنَ التَّآليف، ولا يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ أنَّ الشُّرُوح والحَوَاشي – هذه الظاهِرةُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ الفَذَّة – ليس لها مَشَابِهُ في ثقافات الآخرين. نَعَمْ، اشتهرَتْ ثقافتنا بهذه الظَّاهرة الَّتي لمْ نُحْسِنْ، في كثيرٍ مِنَ المَرَّات تَصَوُّرَها وتَعْلِيلَها = لكنَّ للغرب مُتُونًا وشُرُوحًا وحواشِيَ، كان ذلك في التَّاريخ القديم، ورَأَيْناه في التَّاريخ الحديث والمُعاصر، فالفيلسوف ديكارت له شُرَّاحٌ، والفيلسوف كانْط له شُرَّاحٌ، وهوسِّرل، وهيدغر، وفيلسوف التَّفكيك جاك دريدا كُلُّهُمْ لَهُ شُرَّاحٌ ومُختصِرُون. ولهؤلاء وغَيْرِهِمْ مُلَخِّصُون، يُقَرِّبُون أفكارهم إلى القارئ العامّ، بلْ إلى القارئ المبتدئ، مِنْ طَلَبَة الجامِعات والتَّعليم الثَّانويّ، ولعلَّ القارئَ العربيَّ يُدَاخِله العَجَبُ إذا عَرَفَ أنَّ مارتن هيدغر، وهو قريبُ عَهْدٍ بنا، اختصَّ ثُلَّةٌ مِنَ الباحثين بتحقيق كُتُبه، وأَهَمُّها كِتابُهُ العُمْدة الكينونة والزَّمان، فما ظَنُّك بِمَنْ تَقَدَّمَهُ في الزَّمَن، وقِسْ على ذلك شَيْخَهُ إدموند هوسِّرل، وعالِم اللِّسانيَّات فردنان دي سوسير وآخرين، ثُمَّ لك أنْ تقرأ أَثَرَ هؤلاء الفلاسفة والعُلَماء في أجيالٍ مِنَ المثقَّفين، وأنْ تَعْرِف مِقْدار عناية القَوْم بِأُصُولٍ مخطوطةٍ لهوسِّرل، وأُخْرَى لهيدغر، وإحصاء طبعات هذا الكِتاب أوْ ذاك، وقُرَّائه، وترجماته، وكُلِّ ما يَتَّصِل به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مقدِّمة كِتاب سيصدر، قريبًا، بعنوان “فتنة القول بالبنيويَّة.
ارجو من الأخ حسين بلفقيه والذي سيصدر له كتاب عنوانه فتنة القول البنيوية فقد أصدرت كتاب عنوانه النظرية التربوية في الاسلام في جزئين ووقفت البنيوية في شرح النظرية صدر الكتاب في ١٤٠٢ ١٩٨٢ وارغب الاستفادة مما جمعت جوالي والبريد لدى ادارة الصحيفة